وريثيات .. قلم للبيع
لم يعد خافيًا على أحد أن الفضاء العام بات يعج بالأصوات المأجورة والأقلام التي تلوّن الحقائق لترضي هذا الطرف أو ذاك حيث أصبحت أروقة الإعلام ساحة لتمرير الأجندات الخفية وتشويه الوعي العام
وهنا بالضبط يكمن التحدي الأكبر للصحفي النزيه ففي الوقت الذي يسعى فيه جاهداً لكشف الزيف يصبح هو ذاته هدفاً لسيل من الاتهامات والتشويه وحتى الإقصاء.
إن محاربة الصحفي الصادق لا تأتي بالضرورة عبر التهديد المباشر أو القمع الظاهر فحسب بل تتخذ أشكالاً أكثر دهاءً وخبثاً
قد تكون عبر التجاهل المتعمد لمقالاته وتحقيقاته التي تضرب في صميم الفساد أو تكشف التناقضات وقد تكون عبر التشكيك في نواياه أو حتى في مصداقيته المهنية في محاولة لنسف الثقة بينه وبين جمهوره
وفي بعض الأحيان يتجاوز الأمر ذلك ليصل إلى قطع مصادر رزقه أو عرقلة مسيرته المهنية ليصبح بقاؤه في الميدان ضرباً من المستحيل.
الصحفي الذي يمتلك شجاعة التعبير عن الرأي المستقل أو الكشف عن حقائق مزعجة للسلطة أو للرأي العام السائد غالبًا ما يدفع الثمن
فالمؤسسات التي اعتادت على تجميل الواقع لا ترحب بمن يخدش صورتها والجمهور الذي يفضل العيش في فقاعة من الأوهام قد ينقلب على من يحاول إيقاظه ليجد الصحفي الصادق نفسه وحيدًا في خندق محاطً بأشباح النفاق التي لا تقوى على مواجهة ضوء الحقيقة.
ففي عالم غالبًا ما تسير فيه الحقيقة على حبل مشدود يُفترض بالصحفي مُسلَّحًا بقلمه أن يكون عمود التوازن الثابت ولكن ماذا يحدث عندما تتصدع تلك العصا تحت وطأة الظروف القاسية والحملات الموجهة ؟
ماذا يصبح حال الصحفي الصادق الذي بعد سنوات من الجهر بالحقيقة في وجه السلطة يجد نفسه في المزاد الصامت والمضني لضميره مجبرا على بيع قلمه من أجل البقاء المحض ؟
نتحدث عن صحفي ربما أمضى عمره في مطاردة القصص غير المروية وفضح الفساد وإعطاء صوت لمن لا صوت لهم كانت كلماته حادة ونزاهته لا تُمس واجه المعارك المعتادة التهديدات الرقابة والضغوط المالية المتأصلة في الحفاظ على موقف مستقل
ومع ذلك صمد مدفوعًا بإيمان لا يتزعزع بقوة الكلمة الصادقة.
في بوتقة اليأس هذه فإن القلم الذي كان يومًا سيفًا يصبح عبئًا ثقيلًا المبادئ التي حددت مسيرته الالتزام الثابت بالموضوعية تتحول إلى رفاهيات لم يعد بمقدوره تحملها الصحفي الصادق منهكًا ومكدودًا يواجه خيارا قاسيا التنازل عن مهنته أو مشاهدة أحبائه يتألمون
فهكذا يباع القلم ليس لأعلى مزايد في عرض كبير وعلني بل في تنازلات هادئة ومؤلمة قصة ملينة هنا تفصيل حاسم مُغفَل هناك زاوية إيجابية مُعتمدة لعميل تتناقض أجندته مباشرة مع كل ما دافع عنه يومًا كل ضربة قلم وإن كانت محررة ماليا تُحدث جرحًا أعمق في روحه ربما غير مدرك للضغوط الخفية التحول المفاجئ واصفًا إياه بالمرتزق مضيفين طبقة أخرى من الإدانة إلى عبئه الثقيل بالفعل.
الصحفي صاحب الكلمة الصادقة يتحول من حامل لواء التنوير إلى شخص يحاربه الجميع وتُشن عليه الغارات من كل حدب وصوب
وباختصار فإن قصة الصحفي الصادق المجبر على بيع قلمه ليست مجرد سقوط من النعمة إنها انعكاس صارخ لنظام غالبا ما يعاقب الصدق ويكافئ التواطؤ
تاركًا أكثر أصواته مبدأً تخوض أشد معاركها يأسا في عزلة مفجعة على عكس الأقلام المأجورة وافلام البيع والشراء التي تعيش في رغد العيش وما اسهل البيع والشراء عند اصحاب الاقلام المأجورة ولكن عند صاحب المبادئ فإن ذلك أصعب شيء ..
فهل تعرفون ان تلك الأقلام المأجورة التي تشترونها ستبيعكم في أول منعطف لأن مهنتها البيع والشراء لمن يدفع أكثر؟
وهل تعرفون ان أقلام البيع والشراء هي مسامير في نعش الوطن ومثلما باعت غيركم ومن قبلكم فإنها ستبيعكم وتبيع من سيأتي بعدكم ؟
وهل تعرفوا ان الأقلام الحرة تعيش بين مطرقة الضمير الحي وسندان الظروف المعيشية والضغوط والتهديدات والاتهامات ؟ ام أن هذا هو المطلوب للقضاء عليها والتخلص منها ؟ ..
وفي الختام يبقى القلم أمانة ومسؤولية ونصيحتي أن تحافظوا على الأقلام الحرة لأنها في صف الوطن والمواطن وليست للبيع والشراء مهما كانت المعاناة ومهما كان الثمن ولأنها من يبني ولايهدم عكس الأقلام المأجورة التي تهدم ولاتبني ..
فهل وصلت الرسالة ؟
وهل نختار أن نكون أقلاماً حرة للبناء أم أقلاماً للبيع والهدم ؟؟؟ ...