Logo

فتح طريق عدن - صنعاء: بين فرح البسطاء ومرارة السياسة

طبعا في لحظة انتظرها اليمنيون لأكثر من عقد، انفتحت الطريق بين عدن  وصنعاء، وتدفقت مشاعر البسطاء كالسيل بعد سد طال انغلاقه.
فيما مشهد عبور أصحاب الرايات البيضاء، لحظة التصافح بين جنود من صنعاء وجنود من عدن، صورة تُثلج القلوب قبل أن تبرد الطرق الملتهبة بحر الحرب والخصام.
 ومع كل هذا، يطفو سؤال جوهري: هل فتح الطريق كان فتحا للقلوب أيضا؟ 
أم أنه مجرد مشهد مؤقت في مسرح طويل تعب فيه الجمهور من التصفيق؟
والشاهد أن فتح الطريق ليس مجرد عمل هندسي، بل هو حدث اجتماعي ونفسي بامتياز. هو ترميم لخط طباشير شطري حفره الصراع في جغرافيا القلوب أكثر مما حفره في تضاريس الأرض. 
ذلك أن طريق عدن-صنعاء ليس مجرد شريان مواصلات، بل شريان حياة لملايين اليمنيين، قُطِع لأسباب سياسية وترك خلفه دماء ودموعا، موتى على أبواب المستشفيات، طلابا فقدوا فرصا، عمالا أكلت المواصلات أجورهم، وفقراء ابتلعهم العزلة.
والآن، يعود الناس لعبور هذا الشريان، ليس لأن السياسة قررت الرأفة، بل لأن الزمن أنهك الجميع. 
السؤال النقدي الذي يجب أن يُطرح هنا هو: لماذا احتاج الأمر إلى عشر سنوات من الألم لتُفتح طريق؟ ومن الذي كان يغلقها أصلا؟ 
ومن يملك الجرأة اليوم ليقول "شكراً" دون أن يخجل من نفسه؟ فالفعل هنا ليس منة، بل تصحيح لخطأ كارثي.
بمعنى أدق لا يحق لأي طرف – لا الحوثي ولا الانتقالي ولا حتى الشرعية المعترف بها دوليا – أن يحتكر عدن أو صنعاء. 
بل لا أحد يملك هذه المدن، لأن الناس هم مالكوها الحقيقيون. الأمهات اللواتي انتظرن أبناءهن في طوابير الغربة، والمرضى الذين قضوا قبل أن يصلوا إلى مستشفى، والطلبة الذين ساروا على الأقدام لعشرات الكيلومترات، هؤلاء هم أصحاب الحق في الفرح اليوم.
 أما الفاعلون السياسيون، فمدينون بالاعتذار، لا بالظهور في المشهد كمنقذين.
المفارقة أن من يحتفون بفتح الطريق اليوم هم أنفسهم من أحكموا إغلاقها بالأمس.
 يريدون تسويق هذه اللحظة كدليل على حكمة متأخرة، دون أدنى اعتراف بالذنب. 
لكن الشارع اليمني ليس غبيا، هو شارع ذكي بالفطرة، يفرح من قلبه، لكنه لا ينسى من عقله. يفتح قلبه للمصافحة، لكنه يحتفظ بعينه يقظة للغدر السياسي.
والحال أن عدن وصنعاء ليستا مجرد مدينتين، بل رمزان لهوية يمنية واحدة، استُهلكت في معارك الآخرين، ومُزقت بخطابات الكراهية. 
من هنا، فإن فتح الطريق هو اختبار حقيقي لإرادة السلام، لا فقط اختبارا للخرائط. هو بداية لاختبار نوايا، وفرصة لنزع الألغام النفسية قبل أن نزع الألغام الأرضية.
كذلك فإن الالتقاء بين قوات صنعاء وقوات العمالقة، في مشهد وُصف بالأخوي، يجب ألا يكون فقط مظهر لحظة، بل منهجا دائما. 
أعني اللحظة التي يتصافح فيها جنود من طرفين كانا يتقاتلان، يجب أن تُترجم إلى سياسة واضحة: إذ لا مشروع خارجي سينجح إذا ما وقف اليمنيون صفا واحدا، ولا مشروع داخلي سينجح إذا ما استمر اليمني يشيطن اليمني.
نعم، هناك من يحاول دس السم في العسل:
 الانتقالي يريد أن يقول "أنا عدن"، والحوثي يريد أن يقول "أنا صنعاء"، وفي كلا الحالتين هناك محاولة لاختطاف المدن واختزالها في جماعة. 
وهذا خطر لا يقل عن خطر القتال. فاختطاف الرمزية أسوأ من اختطاف الأرض، لأنه يعمق الانقسام في الوجدان.
أما الشرعية اليمنية، فهي في موقع لا تُحسد عليه، تلعب دور الضحية تارة، ودور الغائب الأكبر تارة أخرى. 
فلقد تأخرت كثيرا في إعادة تعريف نفسها، وسمحت للفراغ أن يُملأ بمشاريع غير وطنية، مستندة على تحالفات ثبت أنها لا تبني دولا، بل تزرع وكلاء.
ومع كل هذا، لا يمكن تجاهل أن الفرح اليوم حقيقي، والدمعة صادقة.
 الناس البسطاء سيتنفسون، الطلاب سيقلبون كتبهم من غير قلق المواصلات، كوالمرضى سيصلون إلى مستشفيات أسرع من الموت. المسافة التعذيبية والاذلالية التي كانت بين عدن وصنعاء خط الضالع ١٨ ساعة..الآن عشرة دقائق فقط!
 هذه ليست أشياء بسيطة، بل معجزات صغيرة تستحق أن تُحتفل بها، ولكن دون أن نُنسي أنفسنا الحقيقة:
 الطريق فُتحت تحت الضغط الشعبي، لا برحمة النخبة.
.. 
فلنقل: شكرا للبسطاء، للمُثقلين بالحلم، للموجوعين الذين لم يكفروا بأمل الوحدة، للذين عبروا الطريق حاملين السلام على أكتافهم، لا البنادق. 
وليكن فتح طريق عدن وصنعاء بداية حقيقية، لا مجرد خط اسفلتي جديد.
 وعقبى فتح طريق الحوبان بتعز ورفع الحصار الجائر عن المدينة الصامدة، والامتثال الصادق للسلام العادل والشامل، 
فهل يفعلها الحوثي ويُثبت أن مصلحة الشعب اليمني فوق كل اعتبار، وأن معاناة الملايين تستحق نهاية؟
 أم سيظل رهينا للحسابات الضيقة والحاقدة والمكابرة التي لا تجدي؟