Logo

لا ينبغي أن تكون الأمور مجرد نزيف!!

في ألمانيا، يعيش أكثر من 400 ألف طالب وطالبة أجنبي، يدرسون في جامعاتها أو يشاركون في مراكز البحث العلمي. هذا العدد الكبير يعكس مدى أهمية ألمانيا كوجهة تعليمية عالمية، حيث تقدم الدولة تعليمًا راقيًا ومجانيًا للطلاب دون تمييز بين المواطنين والأجانب. 

تكلفة التعليم في ألمانيا ليست بالقليلة؛ فمثلاً، يتطلب مقعد دراسي في تخصص مثل الهندسة ما بين 150 إلى 200 ألف يورو على مدى سنوات الدراسة الجامعية، أي منذ التحاق الطالب حتى تخرجه. 

هذه الأموال تُنفق بغض النظر عن جنسية الطالب أو نواياه المستقبلية بعد التخرج، سواء قرر البقاء في ألمانيا أو العودة إلى بلاده. 

وهذا هو بالضبط ما يعكس قيمة التعليم عند الألمان، ليس باعتباره خدمة تستنزف الموارد، بل استثمارًا استراتيجيًا طويل الأمد. 

من منظور ألماني، فإن كل طالب أجنبي لا يمثل فقط فردًا يتعلم، بل يُعتبر جسرًا ثقافيًا وناقلًا للمعرفة والممارسات الألمانية إلى العالم الخارجي. 

ومن المستحب أن يعود الطالب إلى وطنه بعد التخرج، لأنه حينها سيصبح سفيرًا غير مباشرًا للخبرة الألمانية، مما يخدم الاقتصاد الألماني على المستوى العالمي. 

حتى لو لم يستقر في ألمانيا، فإن الدولة تظل مستفيدة، لأن الطالب يأخذ معه المعرفة التي اكتسبها إلى أي مكان يذهب إليه، وهو ما يحقق قيمة مضافة مباشرة وغير مباشرة لألمانيا وللطالب نفسه وبلده. 

 الواقع يشير إلى أن نسبة الذين يبقون في ألمانيا بعد التخرج ضئيلة جدًا. الإحصائيات تُظهر أن نحو 25 ألف طالب فقط من إجمالي الطلاب الأجانب يختارون الاستقرار في ألمانيا بعد إنهاء دراستهم، أي ما يعادل حوالي 6% فقط من العدد الكلي. 

أما البقية، فأكثرهم يعود إلى بلاده أو يهاجر إلى دولة أخرى. رغم ذلك، تستمر الجامعات الألمانية في جذب المزيد من الطلاب الدوليين، باعتبارهم مصدر غنى ثقافي ومعرفي واقتصادي على المدى البعيد. 

على سبيل المثال، في جامعتنا هنا، يوجد ما لا يقل عن 400 طالب وطالبة من باكستان، أي ما يشبه "جيشًا صغيرًا" من الخريجين المحتملين، الذين إذا عادوا إلى بلادهم فسوف يحملون معهم الخبرة والمهارات التي تعلموها هنا. 

بالإضافة إلى ذلك، هناك أعداد كبيرة من الهند والصين، بينما يكاد وجود الطلاب العرب يكون شبه معدوم، إذ تبدو أعدادهم متواضعة جدًا في معظم التخصصات. 

هذه الصورة الرقمية تعكس حقيقة مؤلمة بالنسبة لمنطقتنا العربية. فدول كانت تُصنَّف سابقًا ضمن صفوف الدول الفقيرة مثل الهند والصين وأوروبا الشرقية استثمرت بشكل كبير في التعليم، وأصبح أبناؤها وبناتها يتنافسون في الأسواق العالمية كقيمة مضافة حقيقية. 

بينما بعض المجتمعات العربية حوَّلت التعليم إلى سلعة داخلية عبر ظاهرة الجامعات الخاصة والتعليم الموازي، وبغياب الرقابة المناسبة، فأصبح أبناؤها ضحايا الحروب والفقر والصراعات، ودفعوا الثمن من أجل مجرد الوصول إلى التعليم. 

وفي اليمن على وجه الخصوص، تحول التعليم إلى مصدر إضافي للأزمات بسبب الفقر وتدهور البنية التحتية. فلم نكتفِ بتدمير المناهج والبنية التعليمية فحسب، 

بل أصبحت الجامعات والدراسات العليا عبئًا ثقيلًا على الطالب وعائلته، خاصة من الطبقة الفقيرة، مما أوصل بنا إلى حياة تشبه حياة الدجاج، حيث لا مكان للتطلعات ولا أمل في مستقبل أفضل. 

اليوم، الطالب الصيني الذي يكمل دراسته في الخارج يعود إلى بلاده، لأنه يجد فيها مستقبلًا واعدًا مليئًا بالفرص، خاصة مع التقدم والاستقرار الملحوظين. 

والطالب الهندي يستطيع الحصول على وظائف مرموقة في بلاده بفضل السوق القوي الذي يدعم المواهب، وخصوصًا إن كان قد تخرج من جامعة ألمانية. 

أما طلاب أوروبا الشرقية، فغالبًا لا يرون حاجة للبقاء في نظام عمل ألماني شاق، خاصة مع وجود فرص أفضل في بلدانهم، حتى وإن كانت رواتبها أقل. 

وحتى طلاب من دول إفريقية مثل إثيوبيا يعودون إلى أوطانهم بعد التخرج ليبنوا مستقبل بلادهم ويشاركوا في المنافسة المحلية. 

أما بالنسبة للطلاب القادمين من دول الخليج، فأكاد أقول إن وجودهم نادر، وكذلك الحال بالنسبة لطلاب شمال إفريقيا، فقد وجد معظمهم فرصًا أفضل في أوطانهم أو اختاروا فرنسا وكندا بعد الانتهاء من دراستهم في ألمانيا، وهو ما يعكس التنافس العالمي لاستقطاب الكفاءات والمواهب الشابة. 

وعني أرى أن مساعدة العالم الثالث على النهوض لن تتحقق دون عودة أبنائه إليه. ولا ينبغي أن تكون الأمور مجرد "نزيف للعقول"، حيث تُستثمر الموارد في تدريب وتعليم الشباب ليتحولوا إلى مواطنين في خدمة دول أخرى.

 فمن دفعتي التي ذهبت إلى ألمانيا لم يعد إلى اليمن سوى ثلاثة طلاب فقط من أصل 26. أحدهم فقط كان والده مسؤولًا واخر لم يستطيع يتأقلم، وهو ما يدل على التحديات الكبيرة التي تواجه الطلاب في العثور على فرص حقيقية في بلادهم. 

عني كل من استقطبتهم للدراسات العليا من اليمن لم يعد أحد منهم إلى الوطن، وكان هدفي واضحًا هو إعداد أساتذة جامعيين وكوادر بحثية مؤهلة لخدمة اليمن اي ابني بهم جسور وهنا اعترف انه اخفقنا كدولة وكنخب ايضا ان نساهم في ترك اثر داخل العملية التعليمية في اليمن.

 لكنني لاحظت  اثر جيد لي في مكان اخر حيث أن كل من استقطبتهم من مصر للدراسات العليا عادوا إلى بلادهم بعد الدكتوراه، على عكس اليمنيين، وهو ما يؤكد وجود أزمة حقيقية في البيئة التعليمية والمهنية لدينا في اليمن، والتي أصبحت طاردة للكفاءات بدلاً من أن تكون جاذبة لها. 

إن هذه الأرقام ليست مجرد إحصائيات، بل هي انعكاس لواقع تعاني منه العديد من الدول العربية، ولعل اليمن تحتاج بشكل خاص إلى إعادة النظر الجادة في سياساتها التعليمية والاستثمار الحقيقي في أبنائها، إذا أرادت حقًا بناء جيل قادر على قيادة التغيير والنهوض غير ذلك سوف نظل نستجدي سلات الغذاء، ونهتف كلما شاهدنا قافلة سلة غذاء، نموت نحن ويبقى الزعيم.