Logo

تداعيات الصراع في اليمن وغياب الرؤية السياسية

لا يُقرأ قرار واشنطن بتعليق عملياتها العسكرية المباشرة ضد الحوثيين بمعزل عن تحولات الصراع الإقليمي الأوسع، ولا يُختزل في مجرد مناورة تكتيكية. 

إنه جزء من معادلة معقدة تتداخل فيها حسابات احتواء إيران، وإدارة تداعيات الحرب في غزة، وحسابات الربح والخسارة في الملف اليمني. 

لكن ما يُقلق في هذه المعادلة ليس القرار الأمريكي نفسه، بل السياق الداخلي اليمني الذي يُدار بمنطق "الردع الافتراضي"، حيث تُستبدل مؤسسات الدولة بخطابات أيديولوجية تفتقر إلى أدوات التنفيذ، وتُحوّل الجغرافيا اليمنية إلى ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية، دون أن نمتلك في صنعاء خريطةً واضحة للخروج من هذه المتاهة، بعد العقوبات الإقتصادية والدمار الهائل في البنى التحتية الحساسة.

لم تكن الضربات الإسرائيلية الأخيرة على ميناء الحديدة ومطار صنعاء ومصانع الاسمنت في باجل وعمران مجرد تدمير لمنشآت حيوية، بل اختبارًا لجدوى خطابنا.

 فالسؤال الذي يُطارد  سلطة الحوثيين اليوم ليس عن كيفية الرد، بل عن كيفية التعافي.

 فتدمير الإحتلال للمطار والميناء والمصانع في مقابل خدش في مطار بن غيريون، يُقدّم صورةً قاتمة عن تحوّل "المقاومة" من مشروع تحريري إلى عبء. فهل تحوّلت بطولتنا الأخلاقية إلى فخٍ استراتيجي يدفع اليمنيون ثمنه من لحمهم الحي؟

قبل عقدٍ من الزمن، كان اليمن يُناقش مشاريع انتقال ديمقراطي، واليوم يُناقش لا يجرؤ أحد على فتح يُعيد بناء ميناء أو يستورد لقاحات. 

هذا التحول الدراماتيكي لا يعكس فقط فشل المشاريع السياسية، بل يكشف عن ثمن باهظ تدفعه الشعوب عندما تُختزل الدولة في خطاب أيديولوجي.  

السؤال الذي يُلوح في الأفق – دون أن يُطرح صراحةً – هو: هل تحوّل الالتزام الأخلاقي نحو القضية الفلسطينية إلى عبءٍ استراتيجي يُهدد الوجود اليمني نفسه؟

 الإجابة ليست بنعم أو لا، بل تكمن في قدرة النخب اليمنية – داخل السلطة وخارجها – على إعادة تعريف الأولويات: هل تُريد أن تبقى اليمن ساحةً لصراعات الآخرين، أم تبدأ في بناء مؤسسات قادرة على النهوض من تحت الأنقاض؟  

الوقت ليس محايدًا. فكل يوم يمرّ دون إجابات واضحة، تتحول فيه التضحيات إلى مجرد إحصاءات في تقارير الأمم المتحدة، ويُصبح اليمن – كما هو حاليًا – درسًا تاريخيًا في كيفية تحويل المبادئ الأخلاقية إلى كارثة إنسانية. 

الحياة مجازا وشعار الموت لمن

في كل شبر من صنعاء معاناة تمتد وأعمار تعاش كما يعاش اليأس. لا أفق ثمة حتى للحلم، فالحلم كذبة أخرى ككذبة الحياة نفسها التي يعيشها المواطن مجازا ويفتقدها حقيقة. 

لا حديث عن الحالة المعيشية للناس، ولا عما وصلوا إليه من بؤس. فالسلطة، بكل مكوناتها التي بلا مكونات، منشغلة بالحديث عن الانتصارات تلو الانتصارات ضد أمريكا وإسرائيل تأكيدا لشعارها الأبدي بأن الموت لهما،

 فيما الحياة الحقيقية هي تلك التي لا أحد يدري لمن هي بالضبط، هل لتلك الكائنات التي اسمها شعب بلا مرتبات ولا مقومات حياة، أم لبنية تحتية لشيء كان اسمه دولة فذهبت هي وذلك الشيء أدراج الرياح. 

إنما ليس مهما كل ذاك، المهم هو أن يستمر شعار الموت لأمريكا والموت لإسرائيل حتى لو فني اليمنيون عن بكرة أبيهم. 

الوجوه شاحبة بلا ترقب أو انتظار، سوى متى يتم الإعلان عنه من أزمات قديمة جديدة: بترول، غاز، كهرباء، طحين، أرز.... والسلطة وحكومتها لا تقصران، فلو لم يكن ثمة من أزمة ستقومان باختراعها وإنتاجها، وذلك حتى لا يبقى للشعب من شيء سوى الانشغال بلقمة عيشه وتدبير أموره اليومية. 

حتى الأبواق التي لم يكن يسكت ضجيجها في الشوارع اكتسبت الشحوب ذاته، فالسيارات والشاحنات والباصات مركونة لأيام في طوابير لا تنتهي أمام هذه المحطة أو تلك تنتظر في خليط عجيب متى يحين دورها وتحصل على ما تيسر من بنزين وديزل.

 ينظر إليهم أصحاب باصات الغاز فيتوقعون دورهم قريبا، بحيث تكون الشوارع قد خلت إلا من أطقم الجماعة وزواملها المزمجرة.

وحدها الزوامل ومكبرات الصوت تضج بها الشوارع والحارات والأزقة، ملتزمة ببرنامج يومي تؤديه بإفراط يكاد يجعل من صنعاء مدينة بلا سمع. 

حالة فزع تنم عن جوع حقيقي لم يعد خافيا ولا مستخفيا، فالوجوه الشاحبة والعيون الغائرة المتعبة المحدقة في الفراغ انعكاس طافح لشبح مخيم اسمه الجوع، تعيشه البيوت وحدها، فلا يعود ينبعث منها سوى رائحة السبات. 

كل يوم يزداد أعداد المتسولين رجالا ونساء وأطفالا، وأينما التفت رأيت يدا تمتد نحوك مستجدية أن تجود عليها بما "كتب الله"، لكن لا أحد مهتما أو مكترثا، فالأطقم تمرق والخطابات تستعر والهتاف لا يهدأ: الموت لأمريكا الموت لإسرائيل.