هل الوحدة اليمنيّة في خطر حقيقي؟
ما تشهده الجغرافيا اليمنية الطبيعية والسياسية يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن الوحدة اليمنيّة تتعرض لخطر حقيقي، فمشروع الانفصال الذي يرفعه المجلس الانتقالي الجنوبي، وبقاء الجغرافيا اليمنيّة مقسّمة بين كانتونات مستقلة ماليًا واداريًا،
وتمادي كل منها في اتخاذ إجراءات تشطيرية، علاوة على بروز مشاريع تُطالب بالحكم الذاتي، وأخرى بمنحها إقليم خاص. كلها تثير كمًا كبيرًا من المخاوف على مصير وحدة هذا البلد، لاسيما في ظل تراجع مكانة الوحدة في الخطاب السياسي الرسمي خلال الحرب، وعدم التعامل معها بنبرة متشددة وقوية،
واعتماد هذا الخطاب، وبالذات خطاب الحكومة المعترف بها دوليًا (دبلوماسية سلبية) يخفت معها صوت الوحدة مراعاة لممثل نزعة انفصالية هو شريك في السلطة، وتحظى بدعم إقليمي، وهو ما قد يعطي المجتمع الدولي رسالة مفادها أن الداخل لم يعد يكترث للوحدة.
يبقى مشروع المجلس الانتقالي الجنوبي أبرز تلك المشاريع التي تهدد وحدة البلاد، وإن كان التهديد، الذي يمثله، مازال دون المستوى، الذي يتخوف منه البعض، إلا أنه في ظل خطاب سياسي يمنيّ لم يعد متشيعًا (بقوة) للوحدة مراعاة لموقف الفصيل الانفصالي، قد يتعاظم هذا التهديد.
في السياق، حذّر باحث يمنيّ في علم الاجتماع السياسي، من بقاء حالة الانقسام الداخلي، وما تمثله من تحدٍ أمام تبني صناع القرار اليمنيّ مواقف متشددة إزاء الوحدة اليمنيّة، علاوة على التأثير الإقليمي في صناعة القرار السياسي اليمنيّ، الذي يرى أنه لم يعد يمنيًا خالصًا،
بالإضافة إلى تضارب المصالح السياسية للأطراف اليمنيّة الفاعلة، والتبعية للخارج، والتي تجعل من القبول بأنصاف الحلول والحفاظ على الوضع القائم أولى من تبني خطاب متشدد من الوحدة.
إلى ذلك، حذّرت ورقة لمركز المخا للدراسات الاستراتيجية صدرت حديثًا، من أن استمرار الانقسام الداخلي وضعف الأداء الدبلوماسي قد يفتح الباب أمام تغيّر المواقف الدولية في حال تصاعد النفوذ الإقليمي الداعم للمشاريع الانفصالية،
مؤكدةً أن «الحفاظ على الموقف الأممي المساند للوحدة يتطلب تحركًا وطنيًا متماسكًا ورؤية دبلوماسية واعية».
لكن قبل ذلك، لنلقي نظرة على الموقف الأممي والدولي من الوحدة اليمنيّة، وهنا سنجد أن الموقف الدولي مازال، في جوهره، يستند إلى الموقف الأممي، الذي مازال كما كان عليه عقب اعترافه بالجمهورية اليمنيّة عام 1990،، مؤكدًا على وحدة الأراضي اليمنيّة.
وطبقًا لورقة تقييم حالة صدرت بعنوان «موقف الأمم المتحدة من الوحدة اليمنية ماضيًا وحاضرًا» للباحث صلاح الدين الشرعبي فقد حاز اليمن الشمالي -المملكة المتوكلية اليمنية آنذاك- عضوية الأمم المتحدة بقرار مجلس الأمن رقم (29) في 30 سبتمبر/أيلول 1947 بالإجماع،
أما بالنسبة لليمن الجنوبي – جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية آنذاك- فحصل على عضوية الأمم المتحدة بقرار مجلس الأمن رقم (243) في 14 ديسمبر/ كانون الأول 1967، بالإجماع.
وبعد إعادة وحدة شطري اليمن، صدر عن الدورة الـ 45 للجمعية العامة للأمم المتحدة قرارًا رحبت فيه بإعادة توحيد شطري اليمن، واعتماد الجمهورية اليمنية كدولة عضو واحدة في الأمم المتحدة، ودمج الشخصية القانونية لدولتي الشطرين في شخصية قانونية للدولة الموحدة.
وتشير الورقة إلى ما مرّت به الوحدة اليمنية، بعد تحقيقها، من محطات أثرّت في استقرارها، بدايةً بالخلاف بين النظام المركزي في صنعاء بقيادة الرئيس علي عبد الله صالح من جهة آنذاك،
والكتلة الحاكمة في الجنوب بقيادة نائبه علي سالم البيض من جهة أخرى، وصولاً إلى حرب الانفصال في 1994، عندما أعلن الأخير انفصال الجنوب عن الجمهورية اليمنية، والتراجع عن اتفاق الوحدة.
وقالت، إنه حيال ذلك أبدت الأمم المتحدة موقفًا داعمًا للوحدة، من خلال قراري مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم (924) و (931) واللذين رفضا الاعتراف بإعلان دولة انفصالية في جنوب اليمن، وأن القبول بإعلان الانفصال يُعتبر تدخلاً في سيادة الدول الأعضاء في الأمم المتحدة.
لكن الحديث عن مصير الوحدة اليمنيّة عاود للظهور في خضم ثورة الشباب السلمية في 2011، وما تلاها خلال الفترة الانتقالية، مصحوبًا بمواقف للأمم المتحدة ذات صلة بالوحدة اليمنية، حيث كانت بيانات ممثلي الدول في الأمم المتحدة مؤكدة على دعم الوحدة،
وكذلك إحاطات مسؤولي مجلس الأمن الدولي، وبيانات رئيسه المؤرخة في 15 فبراير/شباط 2013، و2 أغسطس/آب 2014، و22 مارس/أذار 2015،
إضافة إلى الرسالة الموجهة من الممثل الدائم لليمن لدى الأمم المتحدة المؤرخة في 24 مارس 2015، فكانت كل هذه البيانات تؤكد الالتزام بوحدة اليمن وسيادته، ودعوة الأطراف والدول الأعضاء إلى الامتناع عن اتّخاذ أي إجراءات من شأنها تقويض وحدة اليمن.
وتُظهِر هذه البيانات والخطابات تمسك الأمم المتحدة بدعم الوحدة اليمنيّة بشكل صريح، واعتبارها مبدأ ثابتاً في تعاملاتها مع الملف اليمني، وتضمينها في أي صيغة توافقية لإنهاء الحرب، خالية من ذكر أي احتمالية دعم للانفصال تحت أي ظرف.
وقالت الورقة إن مواقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن منذ إعلان الوحدة اليمنية عام 1990 وحتى العام 2025، اتسمت بالوضوح والثبات في دعم الدولة اليمنيّة الموحدة، ورفض أي مشاريع أو خطوات أحادية تمسّ سلامة أراضي البلاد.
وأشارت إلى أن موقف الأمم المتحدة الداعم لوحدة اليمن يمثل أحد أهم أوراق القوة الدبلوماسية للحكومة اليمنيّة،
داعيةً صناع القرار في صنعاء وعدن إلى استثمار هذا الدعم في تعزيز الخطاب السياسي الخارجي الرافض لمشاريع التقسيم، وتحويله إلى مظلة أممية تساند جهود الاستقرار والسلام الشامل.
كما حذّرت من أن استمرار الانقسام الداخلي وضعف الأداء الدبلوماسي قد يفتح الباب أمام تغيّر المواقف الدولية في حال تصاعد النفوذ الإقليمي الداعم للمشاريع الانفصالية،
مؤكدةً أن «الحفاظ على الموقف الأممي المساند للوحدة يتطلب تحركًا وطنيًا متماسكًا ورؤية دبلوماسية واعية».
موقف متشدد
السؤال الآن: لماذا لا يستثمر صناع القرار في اليمن حاليًا الموقف الأممي والدولي الداعم للوحدة من خلال تبنى موقف أكثر تشددًا فيما يمس الوحدة؟
يعتقد أستاذ علم الاجتماع السياسي في مركز الدراسات والبحوث اليمني في صنعاء، عبد الكريم غانم، «أن تفسير عدم استثمار صناع القرار في اليمن الموقف الأممي والدولي الداعم للوحدة في تبني موقف أكثر تشددًا فيما يتعلق بالوحدة يرتبط بالعديد من الاعتبارات أهمها:
حالة الانقسام الداخلي التي تعاني منها المكونات السياسية، وغياب الرؤية الوطنية لدى الأطراف السياسية الفاعلة، بما في ذلك الحكومة الشرعية، الحوثيين، والمجلس الانتقالي الجنوبي.
فالحكومة اليمنيّة الشرعية تتمسك بمخرجات الحوار الوطني الشامل، التي طرحت الانتقال إلى نظام اتحادي (فيدرالي) كخيار بديل للوحدة الاندماجية، والمجلس الانتقالي الجنوبي الذي يضع إحدى قدميه في الحكومة الشرعية والأخرى في المعارضة، يتبنى مشروعًا انفصاليًا مناهضًا للوحدة،
وفي الوقت الذي تبدي فيها الحكومة الشرعية والحوثيون موقفًا نظريًا متمسكًا بالوحدة، إلى حدٍ ما، إلا إن كلا الطرفين يتبنى في الواقع إجراءات أحادية تكرّس الانقسام، ومنها السياسة النقدية والبطاقة الشخصية وغيرها،
فهذا التعقيد يجعل من الصعب على صناع القرار تبني موقف موحد داعم للوحدة اليمنية».
وأضاف، «التأثير الاقليمي في صناعة القرار، فالقرار السياسي في اليمن لم يعد يمنيًا خالصًا، إذ يخضع لمصالح قوى إقليمية مختلفة منها السعودية والإمارات وإيران،
فلكل من هذه القوى الاقليمية نفوذ سياسي وعسكري داخل اليمن، الأمر الذي يحد من استقلالية القرار السياسي للقيادات اليمنيّة ويجعل مصير الوحدة اليمنيّة مرتبط بمدى تحقيقها للمصالح الجيوسياسية للقوى الإقليمية الأكثر تأثيرا في اليمن».
الاعتبار الثالث، طبقًا لغانم، يتمثل في «تضارب المصالح للأطراف السياسية الفاعلة في اليمن، فبعض الأطراف السياسية اليمنية، ومنها المجلس الانتقالي الجنوبي لم تعد ترى في الوحدة اليمنية ما يلبي مطامحها وتطلعاتها السياسية المتمثلة في استئثار أقل عدد من السكان بأكبر قدر من الثروة.
كذلك طغيان الهم الاقتصادي والوضع الإنساني المتأزم على ما سواه من الأولويات، حيث ينصرف الاهتمام المحلي والدولي نحو التخفيف من حدة الجوع والفقر الذي يعاني منه الملايين من اليمنيين،
الأمر الذي يجعل الحلول التكتيكية مقدمة على الرؤى الاستراتيجية لدى صناع القرار، الذين ينصب اهتمامهم على معالجة الملفات الاقتصادية والإنسانية وتأجيل النقاشات ذات الصلة بالوحدة والشأن السياسي».
وأشار غانم إلى أن «استمرار التبعية للخارج، تجعل القبول بأنصاف الحلول والحفاظ على الوضع القائم أولى من تبني موقف متشدد بشأن الوحدة».
السياسة الخارجية
لكن السياسة الخارجية والدبلوماسية اليمنيّة باتت لا تتبنى، أيضًا، موقفًا رافضًا قويًا لكل ما يمس بالوحدة اليمنيّة.
وفي هذا، يرى عبدالكريم غانم أن «استمرار الصراع بين مكونات الشرعية والحوثيين وتزايد نفوذ سلطات الأمر الواقع في شمال اليمن وجنوبه وفي شرقه وغربه،
يجعل تبني موقف متشدد في التمسك بالوحدة أمرًا غير مثالي، لما يشكله ذلك من تهديد لوجود الحكومة الشرعية القائمة على الجمع بين المتناقضات في المصالح الوطنية والجهوية والرؤى والتوجهات الوحدوية والانفصالية».
لكنه يعتقد أن «وقوع اليمن تحت البند السابع يجعل من الصعوبة بمكان الاعتراف بأي كيان انفصالي، الأمر الذي يجعل من تحركات المجلس الانتقالي الجنوبي شرقًا باتجاه روسيا أو غربًا باتجاه أمريكا غير مجدية،
وتكاد تقتصر نتائج زيارات قياداته لهذه العواصم في الخارج على استعادة ثقة أنصاره في الداخل».
هيمنة الخارج
بينما ترى ورقة مركز المخا «أن الموقف (الأممي) الداعم للوحدة اليمنيّة قد لا يبقى مستمراً في حال حدوث تطورات دولية أو إقليمية في المنطقة داعمة للتفتيت؛ خاصة إذا اقترن ذلك بدعم بعض الدول الإقليمية للمجلس الانتقالي الجنوبي ليتمكن من فرض الانفصال بالقوة، وحصول تقاعس في مجلس القيادة الرئاسي عن مواجهة ذلك»،
مؤكدة أهمية الحفاظ على الموقف الأممي كأبرز أولويات السياسة الخارجية والدبلوماسية اليمنيّة من خلال اعتماد خطاب رافضٍ لكل ما يمس بالوحدة.
مما سبق، فإن استمرار خفوت صوت الوحدة في الخطاب الرسمي، واستمرار تقديم التنازلات هي طريق ستؤدي حتمًا لخدمة نزعات الانفصال والتفتيت، في ظل واقع يمنيّ حقيقته الظاهرة والكامنة هي «التمزيق والإنهاك والإضعاف» لكل مكونات المشروع الوطني لليمن الواحد ؛
وإبقاء الحال «لا وحدة ولا انفصال» مسارًا يمضي فيه اليمن «بعمى المصالح الضيقة» نحو تكريس واقع التشطير دون لافتة سياسية، استغلالًا لتغييب النخب الواعية ، وتمكينًا للقيادات المتصالحة مع قوى الهيمنة، لبقاء البلد تحت الاستسلام التام للخارج كقوة فاعلة في الداخل؛ تكريسًا لبقاء القرار مستلبا ومحتاجا.
أحمد الأغبري
القدس العربي