قلعة الرحبة.. هكذا تدّمر أميركا الهوية الثقافية في سوريا

 على الضفة اليمنى لنهر الفرات بريف دير الزور شمال شرق سوريا، تتموضع بلدة "الميادين" وسط سهلٍ زراعي خصب، وبجانب تلٍ أثري فريد اسمه تل الرحبة، وفوق التل تشمخ قلعة "الرحبة" التي تم بناؤها في القرن الثاني قبل الميلاد على يد الملك الآرامي نينوس بن بلوس، لتكون واحدة من أهم المواقع الأثرية في منطقة الجزيرة السورية.

جمعت الرحبة معظم خصائص القلاع المنيعة المبنية وفق أسس الهندسة العسكرية لذلك العصر. إذ يتألف هيكلها من 3 أدوار وسورين داخلي وخارجي، ويبلغ طول‏ السور الخارجي 274 متراً، بينما يبلغ طول السور‏ الداخلي 137 متراً. أما اسم القلعة، "الرحبة"، فيعني الرحابة والاتساع.

وتتميز القلعة القريبة من نهر الفرات بموقعها الجغرافي الاستراتيجي الذي منحها دوراً تاريخياً خلال القرون الوسطى، فوقعت على أرضها مجموعة من الأحداث التاريخية التي شكّلت انعطافات في مسارات التاريخ الإسلامي. كما وفّر لها موقعها غنىً اقتصادياً وزراعياً وتجارياً، فهي تطل على سهل واسع كبير يرتوي من نهر الفرات، وجذب موقعها الغني عدداً من القبائل العربية للسكن بالقرب منها خلال القرون الماضية، وقد حافظت الرحبة على هذه المكانة طوال تاريخها.

موقع استراتيجي على طريق الحرير

تتواجد القلعة في موقع استراتيجي متميز يعتبر بوابة العراق لبلاد الشام، ومفتاح الشام لبلاد الرافدين، ويعدّها كثير من المؤرخين على مدى مئات السنين إحدى أهم محطات التجارة على طريق الحرير الذي يمتد من الصين إلى أوروبا والعكس.

بنيت القلعة على هضبة صخرية مرتفعة ومنعزلة، ترتفع عن سطح البحر 230 متراً، يحيط بها وادٍ عميق، يصل عرضه إلى ما يقارب 20 متراً، وتشرف على عقدة من الطرق التجارية والعسكرية المهمة التي تؤدي إلى حلب وبغداد ودمشق وتدمر والموصل. وتقع عند منتهى وادٍ وعلى مكان مرتفع مشرف على الوادي وعلى مستنقع للماء، وهذا يجسد معنى اسمها "الرحبة"، فالرحاب في الأودية هي مواضع متواطئة لمستنقع الماء فيها وما حولها، مشرف عليها، وهي أسرع الأرض إنباتاً.

يحيط بالقلعة سور خارجي مشيّد بالحجارة والقرميد، مؤلف من 5 أضلاع أطولها الضلع الجنوبي المطل على البادية السورية، ويقع مدخله الرئيس في الضلع الشمالي الغربي؛ ثم هناك سور آخر مشيّد بالحجارة الكبيرة، مؤلف أيضاً من 5 أضلاع أطولها الغربي، ويقوم وسط الأسوار حصن بُني في القرن السابع الهجري.

وتتألف قلعة "الرحبة" في الداخل من 3 طوابق سفلية، الأول عبارة عن قاعات وغرف ومستودعات، والثاني أصغر من الأول، والثالث صالة كبيرة كانت مستودعاً رئيساً، ويقع مدخل القلعة الرئيسي في الجهة الغربية من السور الخارجي، ويؤدي المدخل إلى ممر مقبب بارتفاع 5 أمتار، ينفذ إلى الأقسام الداخلية للقلعة وإلى غرفة الحراسة، وتحتوي القلعة على غرف عدة ومستودعات كبيرة وأقواس مشيدة بالقرميد تستند في صفين إلى أساسات السور الداخلي.

إبراهيم الراوي، مدير الثقافة في دير الزور، يؤكد أن الدراسات أظهرت حقيقة أن القلعة لم تبنَ في مرحلة زمنية واحدة، بل امتد بناؤها وترميمها على فترات زمنية عدة. ففي المرحلة الأولى، بنيت القلعة بـــ"الآجر" وحُفِر خندق حولها، وفي الثانية بنيت أقسام القلعة المشيدة بالحجارة الكبيرة المنحوتة. أما المرحلة الثالثة، فقد وسّعت القلعة وأضيفت إليها الأبراج، وبني الحصن الداخلي في القرن السابع الهجري، وفي المرحلة الرابعة رفعت الأسوار الخارجية والحجارة الصغيرة، وأضيفت الجدران الاستنادية للتدعيم، كما أضيفت بعض البيوت السكنية التي تعود إلى الفترة العثمانية.

ويضيف الراوي أن هناك اختلافاً وجدلاً حول هوية مؤسسها. إذ تذكر بعض المراجع أن البناء القديم يعود إلى فترة الآراميين أو الأموريين، وتذهب أخرى إلى أن الذي شيّدها هو مالك بن طوق، أما الرأي الثالث، فيرجّح أن بانيها هو أسد الدين شيركوه، والرأي الرابع يقول إنه شيركوه بن ناصر الدين.

ويشير الراوي إلى أن تاريخ القلعة يعود إلى 2500 قبل الميلاد حيث سكنها في البداية الآراميون ثم العموريون والعرب والسلاجقة، وبرزت كحاضرة على نهر الفرات على الساحة الدولية في العهد العباسي، وكان قمة ازدهارها في العهد الأيوبي.

ويضيف مدير الثقافة في دير الزور أنه تم بناء القلعة على هضبة صخرية مرتفعة ومنعزلة، حيث ترتفع عن سطح البحر بمقدار 230 متراً، ويحيط بها وادٍ عميق يبلغ عرضه ما يقارب 20 متراً، وتطل على تقاطع مهم للطرق التجارية التي تربط بين حلب وبغداد ودمشق وتدمر والموصل.

مكان شعبي وسياحي وأثري

تعرّضت القلعة خلال تاريخها الطويل إلى العديد من الحروب والهجمات والمحاولات لطمس هويتها، وتم تدمير أجزاء منها أكثر من مرة؛ آخر هجوم كان القصف الأميركي الذي استهدف الحدود السورية - العراقية بداية شهر شباط/فبراير 2024، رداً على تعرض قاعدة "البرج 22" الأميركية في الأردن لهجوم صاروخي أدى إلى مقتل 3 عسكريين وجرح 34 آخرين، حيث استهدفت إحدى الغارات محيط قلعة "الرحبة".

القصف الأميركي ألحق أضراراً جوهرية في بُنية القلعة، وتسبب بحدوث تصدعات وتشققات بالجدران، ما دفع وزارة الثقافة السورية لإدانة  "القصف الأميركي الهمجي على قلعة الرحبة الأثرية بأشد العبارات"، معتبرة أن القصف "مخالف لكل الأعراف والمواثيق الدولية الداعية الى حماية واحترام الممتلكات الثقافية في حال النزاع المسلح".

من جهته، يؤكد الباحث عبد المنعم خليل أن القصف الأميركي الأخير على القلعة يعتبر واحداً من الاعتداءات الكثيرة التي تعرّضت لها القلعة خلال تاريخها، فهي من الأوابد الفريدة بمحافظة دير الزور، لذلك سعت الولايات المتحدة دائماً إلى "طمس الهوية الوطنية التاريخية للجزيرة السورية، والتي تشهد على عراقة وحضارة هذه الأرض".

ويكشف خليل، أن قلعة "الرحبة" تعرّضت أيضاً لهجمات متلاحقة من الفصائل المسلحة التي تعاقبت بالسيطرة على ريف دير الزور منذ العام 2011. فقد عمد المسلحون إلى سرقة محتويات القلعة، ثم القيام بعمليات حفر واسعة حولها بحثاً عن اللقى الأثرية، التي كان يتم تهريبها إلى العراق أو تركيا ومن ثم إلى أوروبا، حيث تعتبر منطقة الجزيرة السورية من أغنى مناطق العالم بالآثار، لذلك كانت هدفاً رئيسياً للفصائل المسلحة للعثور عليها وتهريبها مقابل الحصول على مبالغ مالية كبيرة.

ارتبطت القلعة بتاريخ الجزيرة السورية الواقعة في أقصى الشمال الشرقي من البلاد، وكانت "الرحبة" على مدى تاريخها شاهدة على عديد من المعارك والانتصارات في التاريخ العربي والإسلامي الخالدة إلى اليوم، كما أنها حافظت على ارتباطها الوثيق بمجتمع الجزيرة وأهالي المنطقة، الذين يعتبرون ان القلعة جزء لا يتجزأ منهم.

هكذا، يتحدث بحرقة كبيرة، صالح المحمود الضويحي، من أبناء مدينة "الميادين" بريف دير الزور، عما حلّ بالقلعة نتيجة العدوان الأميركي.

ويقول: "تألمنا جداً ونحن نرى قلعة الرحبة الأثرية تتعرض لاعتداء أميركي، فالقلعة ليست مكاناً أثرياً فقط، ولكنها رمز وجداني واجتماعي ارتبط بأهالي المنطقة منذ مئات السنين، وكل فرد لديه ذكرى مميزة معها، حيث كانت القلعة ومحيطها السهلي والتلال المجاورة لها مرتعاً ومتنزهاً للأهالي خلال سنوات ما قبل الحرب، كما كانت مقصداً للكثير من السيّاح الراغبين بالتمتع بجمال الحضارة السورية وباديتها البهيّة لا سيما خلال فصل الربيع حيث تغطي الزهور والأعشاب البرية المكان بشكلٍ كامل".

* ديب سرحان - صحافي سوري