Logo

هوية مصر في دائرة النقاش بعد افتتاح المتحف الكبير

  جدد افتتاح المتحف الكبير الجدل حول هوية مصر، ففي الوقت الذي تبنى التيار العلماني الانسلاخ من العروبة وتبني الفرعونية دون غيرها، أكد السلفيون على إسلامية مصر، فيما تمسك التيار القومي بمفهوم تواصل الحضارات والعروبة.

السؤال الذي يتجدد من حين لآخر منذ بداية القرن الماضي، وجد أصحابه في افتتاح المتحف فرصة سانحه لطرحه وسط الزخم الذي حققه الافتتاح، وحالة الفخر الذي سيطرت على المصريين، ما ظهر في نشر آلاف الصور المصنعة بالذكاء الاصطناعي لمواطنين يرتدون الزي الفرعوني على مواقع التواصل الاجتماعي.

جدل مفتعل

ودخل الكاتب والإعلامي إبراهيم عيسى على خط الجدل حول هوية مصر، وقال إن افتتاح المتحف «يُعد حدثا إنسانيا استثنائيا بكل المقاييس، لأنه يُجسد التقدير الإنساني العميق للحضارة والمعرفة»، 

مشيراً إلى أن المتحف هو الوحيد في العالم المخصص لحضارة واحدة، هي الحضارة المصرية، التي تستحق هذا الصرح الكبير بما يضمه من مئة ألف قطعة أثرية.

وبين خلال حديثه عبر قناة «المشهد»، أن افتتاح المتحف ليس مجرد مناسبة ثقافية، بل هو إعلان عن مصرية مصر وهويتها الأصيلة الممتدة في أعماق التاريخ، مؤكداً أن هذا الحدث يجب أن يُسكت كل الجدل المفتعل حول انتماء مصر إلى الهويات العربية أو الإسلامية.

وقال: «المتحف تأكيد على أن مصر هي التي تضم كل هذه الهويات داخلها، من الحضارة المصرية القديمة، إلى الثقافة القبطية، والثقافة الإسلامية، والثقافة المتوسطية، فلا يوجد شيء اسمه مصر عربية أو مصر إسلامية. في حاجة اسمها مصرية مصر».

وأكد أن المتحف «هو إعلان عن تفوق العقل والعلم في التاريخ الإنساني، ورسالة من مصر إلى العالم بأن حضارتها لا تزال منارة للفكر والإنسانية والعقل المستنير».

وشهدت مصر خلال السنوات الماضية ما يعرف بمصطلح «الكمايتة»، نسبة إلى «كميت» أحد أسماء مصر في العهد الفرعوني، وهم أشخاص يدعون للاحتفاء بهوية مصر الفرعونية في مواجهة الحديث عن عروبة مصر.

ولم تكن الدعوات جديدة، فقد تبناها البعض على استحياء منذ مطلع القرن الماضي، لكنها ظهرت بشكل أكبر إلى السطح مع الأزمة التي دخلت فيها مصر مع محيطها العربي عقب توقيع الرئيس المصري محمد أنور السادات اتفاقية السلام مع الاحتلال الإسرائيلي عام 1979، لكنها لم تجد حاضنة شعبية وقتها.

في منتصف آب/ أغسطس 2023، أثار متجر «كميت بوتيك» عبر صفحته الرسمية على فيسبوك حالة ضخمة من الجدل، حينما طرح قمصانًا كُتب عليها: «مصري/ة مش عربي/ة للجنسَين».

ولم يهدف المتجر إلى تحقيق ربح فقط بطرح القميص، لكنه استهدف تأصيل الشعور بالانتماء للحضارة القديمة، ومواجهة كل الدعوات الراسخة في وجدان الشعب بعروبة مصر.

لكن مع بداية العدوان على غزة، عاد الكمايتة مرة أخرى للظهور، معربين عن رفضهم لكل دعوات التدخل لمساعدة القطاع، بل وصل الأمر إلى تدشين حملات تطالب بطرد اللاجئين العرب من مصر تحت شعار «مصر للمصريين».

ووجد ما يعرفون بـ«الكمايتة» في افتتاح المتحف، فرصة سانحة لمحاولة نشر أفكارهم والدفاع عنها.

مصر العربية

في المقابل، يرى القوميون العرب أن السؤال المتجدد حول هوية مصر غير بريء ويستهدف انسلاخ مصر من عروبتها.

ويقول سامح حسنين القيادي القومي، إنه عبر تاريخ مصر الحديث لم يُطرح مثل هذا التساؤل. في العهد الملكي استقرت في وجدان المصريين هوية مصر بحضارتها القديمة وعروبتها ومكونها الإسلامي والمسيحي،

 ولم يستنكر أحد قرار حكومة النقراشي باشا بمحاربة العصابات الصهيونية ودخول الجيش المصري أرض فلسطين حين هبت مصر للدفاع عن بلد عربي وجزء من أرض العروبة.
 
وأضاف: ربما ثارت تساؤلات حول مدى استعداد الجيش من حيث التدريب والكفاءة والعتاد وكثافة النيران،

 لكن لم يخرج أحد ليعلن إدانته للدفاع عن جزء من الوطن العربي، بل تطوع الآلاف من المصريين مع البطل أحمد عبد العزيز للقتال ضد العصابات الصهيونية ولمنع قيام كيان جرى تجميعه ودفعه وزراعته بالقهر والعدوان فوق أراضينا.

وتابع: قبلها شاركت قيادات من الحركة الوطنية المصرية على رأسهم الفريق عزيز المصري في دعم ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق عام 1941 لأن سؤال الهوية كان محسومًا بانتماء مصر إلى أمة عربية مكتملة التكوين تتحدث لغة واحدة ويجمعها وحدة التاريخ ووحدة الجغرافيا، ووحدة الثقافة، ووحدة المصير.

وأكد أنه عقب زيارة الرئيس محمد أنور السادات إلى القدس، بدأ تياران يتشكلان كلاهما يدعوان إلى سلخ مصر من عالمها العربي وتمزيق علم العروبة والكفر بها،

 أحدهما يدعو إلى العودة إلى الماضي السحيق ويمجد في هوية مصر وحضارتها المصرية القديمة، والآخر يدعو إلى هوية إسلامية باعتبار العروبة قبليّة والقومية كفر بواح.

وزاد: تناسى التيار الأول الداعي إلى هوية مصر القديمة أن الماضي غير التاريخ، فالماضي قد تراه في المتاحف والمعابد لكن التاريخ هو حركة تدافع الحوادث من الأمس إلى اليوم إلى الغد، 

وأن حركة التاريخ قد شكلت هوية مصر بحضارتها القديمة وتفاعلاتها في محيطها العربي عبر الزمن وأنه لا يوجد ما يمكن أن نُطلق عليه العرق المصري، فهذا كلام تدحضه علوم الأنثربولوجي وتضحك منه الجغرافيا ويرفضه التاريخ ذاته.

التيار الإسلامي

وبين مصر العربية والفرعونية، يخرج أصحاب رأي ثالث يتبنون شعار «مصر الإسلامية»، حيث أثارت الكاتبة المصرية والناقدة الأدبية صافيناز كاظم، جدلا واسعا بعدما كتبت على صفحتها على «فيسبوك» 

بمناسبة افتتاح المتحف الكبير: «الحضارة الحقيقية دخلت مصر حين دخلها الإسلام وكل ما عداه هباء منثور».

وواجهت كاظم التي شهدت حياتها تغيرات فكرية واسعة من أقصى اليسار إلى تبني آراء إسلامية محافظة، انتقادات حادة بعد هجومها على الحضارة المصرية القديمة، دفعت المخرج أمير رمسيس، للرد عليها، 

وكتب على صفحته على «فيسبوك»: «ربما كان يجب على تهاني راشد أن تعيد تسمية فيلمها 4 نساء من مصر لـ3 نساء من مصر ومعهم صافيناز من مزبلة التاريخ».

و«أربع نساء من مصر» هو فيلم وثائقي كندي مصري إنتاج 1997 للمخرجة تهاني راشد، وتدور أحداث الفيلم حول أربع صديقات ذاوت وجهات نظر دينية واجتماعية وسياسية متعارضة في مصر في العصر الحديث، كانت من بينهن صافيناز كاظم.

كلمات كاظم لم تكن تعبر عن نفسها فقط، لكنها تمثل تيار الإسلام السياسي في البلاد خاصة السلفيين، إذ أثار الداعية السلفي مصطفى العدوي الجدل حول افتتاح المتحف قائلاً: «انتبهوا للفتن التي تمر بنا. أخشى على قلب مسلم أن يتلوث بمحبة فرعون وآله».

وأضاف في مقطع فيديو مطول قائلا: «أخشى على المصريين أن يفتنوا بتمثال رمسيس، فالآن المتحف المصري الكبير يضم الأصنام والتماثيل والكنوز التي كانت عند الفراعنة وطرائق التحنيط».

ودعا من يدخل إلى المتحف لأن «يكون في نيته الاتعاظ، لا الافتخار بكفرة أهلكهم الله».

وبعد انتشار الفيديو اعتقل الأمن العدوي، لكن نيابة المنصورة قررت إخلاء سبيله بكفالة مالية قدرها 10 آلاف جنيه، على ذمة التحقيقات.

وحسب المحامي خالد المصري، فإن العدوي عُرض على النيابة في مجمع محاكم المنصورة بعد القبض عليه، واستمعت النيابة لأقواله بعد القبض عليه في بلاغات قُدمت ضده على خلفية تصريحات نُشرت له على مواقع التواصل.

إلى ذلك أثارت الصور المتداولة للمصريين بالزي الفرعوني عبر مواقع التواصل الاجتماعي، التي عبروا من خلالها عن فرحتهم بافتتاح المتحف المصري الكبير، جدلامن قبل بعض السلفيين الذين حرّموا التشبه بالفراعنة.

الزي الفرعوني

الشيخ أحمد تركي، أمين سر اللجنة الدينية في مجلس الشيوخ، قال إن ما يروّجه البعض من غير المتخصصين على مواقع التواصل الاجتماعي حول تحريم ارتداء الزي الفرعوني أو التصوير بالملابس المستوحاة من الحضارة المصرية القديمة،

 هو قول باطل لا يقوم على فهم صحيح للدين، مشددًا على أن الإسلام لا يُحرّم إحياء التراث ولا احترام الحضارات ما لم يقترن ذلك باعتقادٍ شركي أو ممارسةٍ محرّمة.

وكان شيخ الأزهر، أحمد الطيب، هنأ الرئيس عبد الفتاح السيسي والشعب المصري بمناسبة افتتاح المتحف، من خلال منشور له عبر صفحته الرسمية على «فيسبوك»، 

لافتا إلى أن هذا الصرح الحضاري يعكس موقع مصر الفريد في الحضارة الإنسانية على مر العصور، ويؤكد أنها كانت ولا تزال وستظل منارة للتراث والثقافة والحضارة والإنسانية.

وأكد اعتزازه بما تزخر به مصر من كنوز الحضارة والتاريخ وتراثها الإنساني الفريد، مؤكدًا ضرورة استلهام مشاعر الفخر من هذا الإنسان المصري القديم الذي أدهش العالم بحضارة استثنائية لا تزال أسرارها في مختلف الفنون عصيةً على الفهم والإدراك، رغم ما توصل إليه إنسان اليوم من تقدمٍ تقنيٍّ وتكنولوجيٍّ مذهل.

وذكّر بما نص عليه البيان الختامي لمؤتمره العالمي للتجديد في الفكر الإسلامي، من أن الحفاظ على التراث والآثار هو واجب ديني وإنساني، وأن الإسلام قد دعا إلى صون مظاهر الإعمار في الأرض، وأن الآثار موروث ثقافي يعرف بتاريخ الأمم والحضارات، 

ولا يجوز الاعتداء عليها ولا ارتكاب ما يغير من طبيعتها الأصلية، بل ويجب حمايتها بوصفها شاهدا على حضارات الأمم وسيرتها ومسيرتها.

تامر هنداوي