Logo

المتحف المصري الكبير... تاريخ البلاد في نصف مليون متر مربع

على بُعد أمتار من أهرامات الجيزة، يقف المتحف المصري الكبير شاهداً على رحلة بلد آمن بأن حضارته لا تُقاس بالزمن، بل تُقاس بقدرتها على أن تبقى حية في وجدان الإنسانية.

اليوم تفتح أبواب هذا الصرح الفريد أمام العالم، لتبدأ صفحة جديدة من علاقة مصر بتاريخها، وتقدّم للعالم أكبر متحف أثري في تاريخه الحديث.

فكرة إنشاء المتحف المصري الكبير ولدت في تسعينيات القرن الماضي، حين طُرحت رؤية طموحة لتحويل هضبة الأهرامات وما يجاورها إلى مثلث ثقافي ذهبي، يربط الماضي بالحاضر في تجربة متكاملة. المشروع، الذي حمل ملامح الحلم منذ البداية، تطور تدريجياً حتى أصبح رمزاً وطنياً يجسّد التقاء الخيال الهندسي بالإرادة السياسية.

بدأت المرحلة التنفيذية الأولى عام 2002 بإشراف وزارة السياحة والآثار المصرية، وبتمويل مشترك من الحكومة اليابانية وهيئة التعاون الدولي (جايكا)، في إطار مشروع دولي اعتُبر الأضخم في مجال المتاحف خلال القرن الحادي والعشرين.

المتحف المصري الكبير

في المتحف المصري الكبير، أكتوبر 2024  

وبحسب الهيئة العامة للاستعلامات ورئاسة الجمهورية، يمتد المتحف على مساحة نصف مليون متر مربع، أي نحو 117 فداناً، ليصبح واحداً من أضخم المتاحف في العالم، بواجهة تطل مباشرة على أهرامات الجيزة، كما لو أن الحجارة القديمة تحيي وريثتها الجديدة.

تبدأ رحلة الزائر من ميدان المسلة المصرية، حيث تفتح الواجهة الزجاجية العملاقة للمتحف، المعروفة باسم حائط الأهرامات، على مشهد مهيب بعرض 600 متر وارتفاع 45 متراً.

من هناك، يقود الطريق إلى داخل المبنى المكوَّن من كتلتين: مبنى المتحف إلى الجنوب، ومبنى المؤتمرات إلى الشمال، يتوسطهما بهو المدخل الذي يحتضن تمثال الملك رمسيس الثاني، وكأنه يستقبل أبناءه وزواره بعد رحلة عمرها آلاف السنين.

منذ لحظة دخول المتحف، يدرك الزائر أن ما يراه ليس مجرد مبنى لعرض القطع الأثرية، بل منظومة متكاملة صُممت لتقدم التاريخ بأسلوب عصري تفاعلي.

في المتحف المصري الكبير، أكتوبر 2024  

في الداخل، تمتد قاعات العرض الدائم على مساحة 18 ألف متر مربع، تروي قصة الحضارة المصرية من عصور ما قبل الأسرات إلى العصرين اليوناني والروماني. يقف الدرج العظيم واحداً من أكثر العناصر إبهاراً، إذ يضم 42 قطعة أثرية ضخمة تروي تسلسل الحضارة المصرية من الحجر إلى الدولة الحديثة، فيما تتوزع القطع الأخرى، وعددها الإجمالي يقترب من 100 ألف قطعة، في قاعات مجهزة بأحدث تقنيات العرض والإضاءة.

 للمرة الأولى في التاريخ، تُعرض المجموعة الكاملة للملك الذهبي توت عنخ آمون في مكان واحد.

أكثر من خمسة آلاف قطعة من كنوزه، التي اكتُشفت عام 1922، تُعرض مجتمعة داخل قاعتين بمساحة 7500 متر مربع، صُمّمت لتعيد الحياة إلى تفاصيل اكتشاف المقبرة الأسطورية بكل ما حملته من رمزية. ويشمل ذلك التابوت الذهبي الذي خضع لعمليات ترميم دقيقة داخل مختبرات المتحف منذ عام 2019، استعداداً لعرضه ضمن المجموعة الملكية.

بحسب رئاسة الجمهورية، يضم المبنى أيضاً متحفاً للأطفال بمساحة خمسة آلاف متر مربع يعتمد على الوسائط التفاعلية، ليتيح للأجيال الجديدة التعرف إلى تاريخها من خلال التجربة لا التلقين. وخُصّصت قاعات عرض لذوي القدرات الخاصة، ومكتبة علمية متخصصة في علم المصريات تضم مراجع نادرة.

إلى جانب ذلك، يوجد مركز للترميم هو من الأكبر والأحدث في العالم، مجهز بأحدث التقنيات والأجهزة الدقيقة بالتشارك مع هيئة التعاون الدولي اليابانية (جايكا). هذا المركز أنجز ترميم أكثر من 50 ألف قطعة أثرية استعداداً للعرض، بنسبة إنجاز تجاوزت 98% من إجمالي القطع المنقولة، وهو رقم غير مسبوق في أي مشروع متحفي معاصر.

توت عنخ آمون

التابوت الذهبي للفرعون توت عنخ آمون أثناء وضعه للترميم في المتحف المصري الكبير، 21 سبتمبر 2019  

لم يتوقف الطموح عند حدود العرض الأثري. فالمتحف صُمّم ليكون مركزاً ثقافياً واقتصادياً متكاملاً. يضم مبنى المؤتمرات قاعة كبرى متعددة الاستخدامات تسع نحو 900 شخص، وسينما ثلاثية الأبعاد، ومركزاً ثقافياً يضم فصولاً للحرف والفنون التراثية.

أما المنطقة الخارجية، فتضم مطاعم مطلة على الأهرامات، وحدائق ترفيهية تمتد على 58 ألف متر مربع، وحديقة أرض مصر التي تحاكي البيئة الزراعية في وادي النيل القديم. بهذا المعنى، لم يُبنَ المتحف ليكون مخزناً للآثار، بل ليصبح مدينة ثقافية نابضة بالحياة، تدمج بين السياحة والمعرفة والترفيه.

وراء هذا الإنجاز تقف قصة من التعاون الدولي والالتزام بالتنمية المستدامة؛ المتحف المصري الكبير هو ثمرة شراكة طويلة بين مصر واليابان، تمثلت في دعم فني ومالي من جايكا عبر قرضين تنمويين وتبادل للخبرات في مجالات الترميم والحفظ.

وحصل المتحف على شهادة EDGE Advanced الدولية للمباني الخضراء من مؤسسة التمويل الدولية (IFC)، ليصبح أول متحف في أفريقيا والشرق الأوسط يُصنف مبنى أخضر مستداماً، يستهلك موارد أقل ويُنتج أثراً بيئياً أخف.

تتجسد في المتحف المصري الكبير فلسفة مصر الجديدة: الحفاظ على تراثها العريق بأدوات القرن الحادي والعشرين، وتوظيف العلم والتكنولوجيا في خدمة التاريخ والهوية.

فكل ركن فيه، من الدرج العظيم إلى مكتبة الكتب النادرة، يعكس حرص الدولة على تقديم تجربة تليق بمكانة مصر العالمية، وتجعل من المتحف ليس فقط موقعاً للعرض، بل مركزاً للحوار الثقافي والبحث العلمي والتعاون الدولي.

ومع الافتتاح الرسمي اليوم، الذي أقرّ مجلس الوزراء اعتباره يوم إجازة رسمية لإتاحة الفرصة للمصريين لمتابعة الحدث، يُقام الاحتفال في الساعة السابعة مساءً بتوقيت القاهرة، بحضور رسمي واسع يضم 79 وفداً دولياً، بينها 39 وفداً برئاسة ملوك وأمراء ورؤساء دول وحكومات من مختلف القارات.

ويُذكر من بين أبرز القادة المشاركين الملك الإسباني فيليبي السادس ملك إسبانيا، والرئيس الألماني فرانك-فالتر شتاينماير، ورئيس قبرص نيكوس خريستودوليدس، والرئيس الفلسطيني محمود عباس، إلى جانب قادة من الأردن والبحرين وسلطنة عُمان والإمارات والسعودية واليمن واليابان وتايلاند، وغيرهم.

كما يحضر رؤساء حكومات من دول أوروبية وعربية وآسيوية، بينهم رؤساء وزراء اليونان والمجر ولبنان والكويت وبلجيكا وهولندا، إضافةً إلى تمثيل وزاري وبرلماني رفيع من أكثر من أربعين دولة.

ويشارك كذلك عدد من قيادات المنظمات الدولية والإقليمية، من بينهم الأمين العام لجامعة الدول العربية، ورئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي، والممثل السامي لتحالف الحضارات نيابةً عن الأمين العام للأمم المتحدة، إلى جانب رئيس وكالة التعاون الدولية اليابانية (جايكا) وعدد من رؤساء وممثلي كبرى الشركات العالمية.

ويُقدَّر أن يستمر الاحتفال نحو تسعين دقيقة يعقبها جولة داخل قاعات المتحف المصري الكبير للضيوف، على أن تُفتح الأبواب أمام الجمهور اعتباراً من الثلاثاء 4 نوفمبر/تشرين الثاني، مع تمديد ساعات الزيارة يومي السبت والأربعاء حتى العاشرة مساءً.

وتشير المعلومات الرسمية إلى أن الرئيس عبد الفتاح السيسي سيتولّى استقبال رؤساء الوفود في ثلاثة مطارات مخصصة، قبل توزيعهم على فنادق قريبة من الأهرامات أو مقارّ إقامة تابعة للسفارات، في إطار ترتيبات أمنية ولوجستية مكثفة، تشمل البثّ الحي للحدث وتغطية إعلامية مفتوحة محلياً ودولياً.