المدينة طُعماً.. اصطياد الإنسان في عصر "الكليك بايت"
"من سيأتي إلى هنا الآن؟
لا أحد. الكل يعبر لا غير. نحن منسيون ومتأخرون. ما علينا فعله هو تغيير كل شيء واللحاق بالركب".
تنطبق هذه الجملة التي قالها بطل الفيلم الإسباني "السياحة اختراع عظيم" (1968)، على نموذج السياحة السائدة في المدن العالمية عموماً، حيث تتحوّل الأحياء إلى شقق سياحية، وحيث رؤساء البلديات مهووسون بالبحث عن العناوين الأكثر لفتاً للانتباه، وحيث كل مدينة تحلم بأن تكون "وادي السيليكون الجديد".
هذا هو موضوع كتاب "مدن الكليك بايت"، الصادر مؤخراً عن منشورات "بارلين" الإسبانية.
يشرح مؤلّف الكتاب الإسباني فيسينت مولينز الطرائق والآليات والممارسات التي ينفّذها السياسيون من أجل إنشاء نموذج اقتصادي مبالغ فيه يقوم بشكل رئيسي على جذب السيّاح.
ينهض هذا النموذج، كما يوضّح الكاتب، على قاعدة أساسية هي تغيير هوية الأشياء: النزل يصير فندقاً، والدكان يتحوّل إلى مركز تجاري، والجامعة إلى مركز سياحي، والأماكن التراثية إلى ملاه. وكلّ ذلك من أجل شيء واحدٍ لا غير: جذب الناس.
هذه "التحوّلات" التي يقوم بها "المخططون السياسيون والاقتصاديون" لهذه العمليات لا تقوم على تغيير هوية المدن وحدها، بل تشمل اللغة أيضاً، إذ إنّها تتمّ بلغة أقرب إلى لغة هذا العصر الافتراضي الذي نعيش فيه، عصر التحوّلات الرقمية، حيث صار الإنسان اليوم بنقرة على رابطٍ واحد يختبر كل شيء.
يحلّل الكاتب الإسباني معنى المدينة التي لم تنجُ من هذه التحولات، بل صارت اليوم بمثابة "ضوء" يجذب ذباب العالَم الذي يطير في الكواكب.
فواحدٌ من كل خمسة مواطنين يسافر حول العالم، وتبعاً لهؤلاء المخطّطين، يجب القبض عليه. وغالباً ما يتمّ النجاح في عملية "القبض عليه" من خلال قضايا لا تتعلق بـ"التماسك" أو "جودة الحياة" أو "الثقافة" أو "الفن"، بل من خلال شيء واحد لا غير: جذب السياح على حساب السكان المحليين.
هنا تحديداً، يتحدّث الكاتب عن مصطلح "الكليك بايت" الخاص بعالم الإنترنت، أو "طُعم النقرة"، كما جرت العادة ترجمته عربياً؛
وهو رابط نصيّ أو صورة مصغّرة تُصمم خصيصاً لجذب الانتباه ولحثّ المستخدم على "النقر" على الرابط، أو قراءة أو عرض أو الاستماع إلى الجزء المرتبط به، وهو عادةً ما يتسم بالخداع والإثارة.
هذه "التلويحات" المثيرة تهدف إلى استغلال "فجوة الفضول" عند المستخدم، حيث توفر معلومات لإثارة فضول قُرّاء المواقع الإخبارية، ولكنها ليست كافية لإرضاء فضولهم دون النقر فوق المحتوى المرتبط. تضيف عناوين الكليك بايت إغراءات لا تعكس المحتوى الذي تقدّمه،
ومن هنا كان معنى "الطُعم" من مصطلح الصيد، حيث يتم إخفاء الخطاف بواسطة "طُعم"، ما يعطي انطباعاً للأسماك بأن ابتلاعها أمر مرغوب فيه.
يطبق الكاتب الإسباني هذا المصطلح على المدن، ومنه يتحدّث عن مدن "الكليك بايت"، الذي اختاره عنواناً لكتابه؛ هذه المدن التي تتبنّى لغة الإنترنت والإثارة المستمرّة، حيث تتحوّل إلى مجرد منصة لعرض نفسها كوجهة مثيرة، لا كمكان للعيش والاستقرار.
والنجاح يقاس بعدد الزوار.
ويُشير الكاتب إلى أنّ المنافسة بين هذه المدن أصبحت شرسة. فكل مدينة اليوم تطمح في أن تكون عاصمة لشيء ما، وكل مدينة تتسابق على تقديم مشاريع لا معنى لها حضارياً وثقافياً وإبداعياً: معارض غريبة، سباقات الفورمولا ون، زينة أعياد الميلاد، الألعاب النارية في رأس السنة، بين أمور أخرى.
في نهاية كتابه، يُحذر الكاتب الإسباني من العواقب العاطفية المترتّبة على الاعتياد على الحاجة إلى خلق واستقبال المحفزات المستمرّة وما يسبّبه من أضرارٍ نفسية. خصوصاً أننا بدأنا نعتاد على الحاجة للمثيرات وفقدنا القدرة على التقدير الحقيقي للمكان الذي نعيش فيه.
المشكلة الأكبر هي أنَّ المدن التي تتبع هذا النهج قد تجد نفسها خارج السباق وتُترك خلف الركب، خاصة مع تراجع قدرة الحكومات على التحكّم في هذا الاتجاه بعدما سلّمت السلطة للقطاع الخاص والبنوك وشركات الاستثمار.
تأتي أهمية الكتاب من أنه يدعو القارئ إلى التفكير في المدينة التي يعيش فيها، طارحاً عليها أسئلة من نوع: أين نحن الآن؟ وإلى أين نتجه؟
وهل يمكن للمدن أن تستمر في تسمية نفسها مدناً إذا كان نشاطها بالكامل يركّز على تلبية حاجات العابرين فيها فقط؟ وفوق هذا كله، ماذا سيبقى من هذه المدن عندما ينتهي "الشوو"؟
ماذا عن مدننا العربية؟
هل يصحّ أن نقول عنها إنها صارت هي كذلك مدن "كليك بايت"؟
أم أنها لا تزال تحافظ على هويتها الحضارية والإبداعية؟
وهل توفّر لإنسانها حاجاته الأساسية من سكن وماء وضوء وهواء وأمان وتعطيه ماهيّته الأكثر عمقاً من حريّة وجمال وإبداع؟
أم أنها على العكس تتحول إلى أماكن لصناعة الطغيان والعنف والظلم والتعسف والفقر؟
وهل دخول هذه المدن العربية في تحوّلات هذا العصر الاصطناعي الذكي وحركيّته وسرعاته جعل منها فضاءً للبحث والكشف؟
أم أنها صارت مدناً آلية جعلت إنسانها أقل إنسانية في كل شيء؟ ولو جُرّدت هذه المدن من "حداثتها العصرية"، فهل ستكون لها ذاكرة؟
ربما كي نعرف حقّاً طبيعة المدن العربية وما إن كانت مدن "كليك بايت" أم لا، يجدر بنا أن نسأل أولاً: من هو المواطن العربي اليوم؟
* جعفر العلوني
شاعر ومترجم سوري مقيم في إسبانيا