هل العرب أمّة موسيقى؟

 يعرف المصريون جميعاً عمر خيرت، الملحن وعازف البيانو وتتراته التي ترتدي بدلة مكرَّرة النقوش والزخارف، فيما لا يعرفون عمَّه، أبا بكر خيرت، المؤلف الموسيقي المتفرّد. يعرف المصريون محمد عبد الوهاب، المطرب الكبير، وملحن الأغاني الفذ. يحفظ كثيرون منهم كلمات أغانيه وتنغيماتها بالمازورة، لكنَّ قليلين منهم يعرفون مؤلفاته الموسيقية الخالصة كـ"خان الخليلي" أو "خطوة حبيبي". لا يعرف كثير من المصريين عبده داغر أو عطية شرارة أو إبراهيم حجَّاج أو فؤاد الظاهري. كما لا نعرف من العراقيين إلا نصير شمَّة ولا نعرف عن اللبنانيين إلا الرَّحابنة.. وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل: هل نحن أمَّة موسيقى؟

قد نقصد بسؤالنا عموم الأمة العربية، وسنتابع إنْ كانت توجد حالات استثنائية بين الأقطار العربية، التي قد تكون بعيدة وجدانياً عن تلقي الموسيقى الخام. لا نقصد بالتأكيد أن العرب لا يستمعون للموسيقى الخالصة، لكن أقول إنهم لا يميلون - في معظمهم - إلى التعايش مع الموسيقى رُكناً في ثقافتهم وحياتهم، ولهذا أسبابه، وسنُتبع التساؤل الأول بثانٍ: ما الإسهام العربي في صناعة الموسيقى الخالصة الخالية من الشعر وتفعيلاته وإيقاعاته؟ 

الكِندي والموسيقى

للبحث عن أثر شيء ما في وجدان أمة من الأمم لا بُدّ للفلسفة أن تقول كلمتها بدايةً، فها هو الفيلسوف العربي يعقوب الكِندي يصف "الموسيقار الباهر" بـ"الفيلسوف" الذي يعرف ما يُشاكل كل مَن يلتمس إطرابه من صنوف الإيقاع والنغم والشِّعر. ولعلّ اختتام الكِندي جملته بكلمة "الشعر" هنا لها دلالة سنقف على عتباتها.

ويضيف الكِندي في موضع آخر عبر رسائله: "إنَّ لكل قوم من هذه الآلة (أي العود) مذهباً هو ليس لغيرهم. فمذهب الفُرس استعمال الخفَّة بعد وقوفهم على طرقهم المعلومة، إذ هي شبيهة لهم بالأصول، ومذهب الروم أيضاً في الألحان الثمانية الأسطوخسية.. وكذلك مذهب العرب بالضرب اللائق بغنائهم، كأصولهم الثمانية، أي الثقيل والخفيف والهزج".

من هذا الرأي، قد نتحسَّس خطواتنا الأولى بحثاً عن مفتاح الموسيقى وحضورها في الوجدان العربي: هل كان لهم نصيب أصيل منها؟ هل تمثل حيّزاً في حياتهم؟ هل يعتبرونها وافداً وجب حُسن ضيافته، لكنه في النهاية ليس من أهل البيت؟

الشعر المغنى طريق إلى الموسيقى

يقول الناقد الموسيقي أشرف غريب إن: "العرب ملوك الكلمات، إنهم أصحاب أسواق الشِّعر، يُكافأ الشاعر المُجيد لديهم بتخليد اسمه، بل وتعليق مُنتجِه من قصائد على جدار الكعبة المقدسة، لكن لم نسمعهم يفعلون بموسيقيٍّ هذا التكريم.. الكلام لديهم أساسي والموسيقى لاحقة".

ويضيف: "عرف العرب الموسيقى الآلية عبر أمم جاورتهم، كأهل فارس والتُّرك.. كانت للعرب سهرات وليالٍ من العزْف، في جاهليتهم أو حول خلفائهم بعد الإسلام، لكن الموسيقى في النهاية لم تكن جزءاً أصيلًا من ثقافتهم، حتى إنَّ مصطلحات الموسيقى العربية لا تزال تحمل تسميات تركية أو فارسية كالبَشْرف والدولاب، فيما لم يتواتر إلينا عن العرب وجود الموسيقى في حياتهم كما كان للشعر مثلاً، الذي يعدُّونه ديوان حياتهم الأعظم".

ويتابع الناقد المصري: "الشعر المُغنَّى قاد العرب إلى الموسيقى عبر مجالس الخلفاء"، لافتاً إلى واقعة الفيلسوف الفارابي -غير عربي الأصل- وهو يعزف موسيقاه للناس، فينام الحاضرون في مجلسه!

مع الحياة في الأندلس، وظهور زرياب، تغيّرت الحال، إذ وجدت الموسيقى نصيبها من الوجود إلى جوار الغناء/الشعر، على ما يشير ـغريب، الذي ينتقل بنا إلى العصر الحديث.

إذ يظهر في الحالة المصرية سيد درويش، ابن مدينة الإسكندرية، متعددة الثقافات والجاليات، ويظهر امتدادُه الفني، محمد عبد الوهاب، الذي كان جِسراً بين موسيقانا وموسيقى الغرب. فهو الذي أطلع الوجدان العربي على كيفية أن تجلس فتستمع إلى صوت آلات من دون صوت بشري وكلمات. كان يمرّر في مقدمات أغانيه ما يجعل للموسيقى البحتة مساحة، يخلق لها وجوداً من عدَمٍ غير مرئي في وجداننا الشرقي. كان عبد الوهاب يسرّب ذلك عبر أفلامه وأفلام الآخرين التي يشارك فيها صانعاً للألحان.

حتى السُّنباطي، رجل الكلاسيكية والمحافظ على شكلنا الغنائي والموسيقي، شارك في صناعة موسيقى خالصة. ثم يأتي جيل أحدث، حيث عطية شرارة وإبراهيم حجَّاج وأبو بكر خيرت وعزيز الشوان وعبد الحليم نويرة، الذين قدموا موسيقى غربية بروح وموضوعات شرقية، تأخذ من الغرب بناءه الأوركسترالي وتأخذ الروح من شوارعنا وحتى من ماء "بحيرة المنزلة". 

وإذا خرجنا من الحالة المصرية نحو لبنان، وجدنا الرحابنة يتعاملون مع الغناء العربي بشكل غربي من حيث التوزيع، ليخدموا مشروعهم التجديدي باستخدام صوت فيروز، القادر على أداء الغربي والشرقي في حالة مزج تخدم الغناء (شعراً وموسيقى)، أكثر منها حالة موسيقية صرفة.

ويلفت غريب أيضاً إلى محاولات موسيقيي العراق في خلق تأليف موسيقى خام، ممثلة في مؤلفات نصير شمه ومجهوده عبر آلة العود، فيما يعود ويستثني الحالة المصرية من هذا الجفاء للتأليف الموسيقي، فهي - رغم ضعف إنتاجها - حاولت عبر أجيال تقديم إسهام ولو بسيط في جبل الموسيقى العالمي، لكن تبقى المسافة بيننا وبين الغرب في هذا الحقل طويلة، لأنها بالأساس فروق وجدانية وثقافية.

ولعل أهم ما لفت إليه غريب هو أن الغناء لدى العرب "فِعل مناسباتي وحياتي، ولا يمكن فصله عن وجدان العرب عموماً، فهم يتفاعلون حركياً مع الغناء".

ويمكن أن نضيف إلى هذا التحليل، أن قُرآن العرب وترانيم كنائسهم يعتمدان الإنشاد والإيقاعات، وربما لأن ثقافتهم ثقافة ثَبات، فقد كانوا في حاجة إلى ما يحرّكهم ولو في أماكنهم. وهذا ما يفعله الغناء وإيقاعاته، بينما الموسيقى البحتة ارتبطت بطقوس مقدَّسة من الإنصات والسكون والغرق الفكري في غياهب المعاني التي تطرحها الآلات وما يُكتب لها من نوتة مليئة بالرموز، ويبدو أن هذا كان متجذّراً لدى الغرب، الصاخب حياتياً، وكان في حاجة إلى الهدوء والتأمل الموسيقي.

نعود إلى الكِندي وتعريفه الموسيقى بربطها بالشعر، فالرجل كأنه يريد أن يقول إن الموسيقى لدينا هي الغناء، والغناء هو الشِّعر، حتى إن أعظم كِتاب عن الشعر العربي والشعراء العرب تمثَّل في "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني. 

إنتاج شحيح

لدينا أزمة أخرى في متابعة الجمهور العربي المؤلفات الموسيقية، وهي أنها شحيحة بالفعل، إذا ما قورنت بالإنتاج الغنائي الغزير، ولعل هذه مسؤولية المؤلفين الموسيقيين أنفسهم، الذين يختارون الأسهل والرائج، ولا يعتنون بالمنتج الموسيقي العقلي، الداعي إلى التفكير، بقدر ما يعتنون بالإسهاب في العاطفة الغنائية والإنشادية التي ألِفها العرب.

ورغم الحداثة والتطور، فإن غناءنا العربي وموسيقانا لا يزالان أسيرَي مزاج قديم التكوين، وربما هذا يعود إلى عدم اهتمام الفلاسفة والمفكرين بخطورة الغناء والموسيقى، فابتعدت أعمال الفكر عن تناول هذين المجالين الفنيّين بشيء من التحليل العلمي، مثلما ينعم الغرب مثلاً بمؤلفات فكرية عن الموسيقى كتلك التي قدمها فريدريش نيتشه في كتابه "ميلاد التراجيديا".

لا يمكن أن تنتقل موسيقانا من حالتها المزاجية القائمة على "الصَّهْللة" ومجافاة العقل، إلا عبر مشروع فكري يعتمدها في التعليم والسينما. أمَّا أن تبقى الموسيقى رهن حبل الترفيه والتقافُز، فهذا سوق يخنقها في النهاية، وندور في حلقة مفرغة من الألحان التي تبقى في محلّها من دون تحريك للعقل. 

*  مصطفى علي - كاتب صحافي مصري