كتّاب صنعوا مجد أميركا اللاتينية.. عِش وتخيّل ثم اكتب

 مثّل كتّاب أميركا اللاتينية صدمة لذيذة للقرّاء منذ النصف الثاني من القرن العشرين، وترجمت أعمالهم إلى عشرات اللغات، وحصد عدد هام منهم جوائز عالمية مرموقة كنوبل للأدب وثيربانتس وغيرها. كما اعتبرت سيرهم الذاتية أساطير صغيرة يتداخل فيها جمال البنى السردية بغرائبية الوقائع التي حدثت في بلدانهم. وأغلبهم عاش المنافي ودافع عن قيم العدالة والحرية وسطّر ملحمة جوهرها أن الأدب الجيد يخرج من رحم الاضطرابات وتمزقات التاريخ. هنا تّتبع لجزء يسير من الملامح الأدبية لبعضهم. 

في جريدة "كلارين" الأرجنتينية، تحدث الناقد جورج لافورغ عمّا سمي بالطفرة أو  بالازدهار الذي عرفته بلدان جنوب القارة الأميركية في حقل الأدب، و هو ما أطلق عليه لفظة "بووم" أيضاً. وذلك بفضل كتابات ماريو فارغاس يوسا وغابريال غارسيا ماركيز وخوليو كورتاثار وكارلوس فوينتس. وتحولت بذلك النصوص إلى كلاسيكيات ملهمة.

واكتشف القراء طرقاً متنوعة للسرد، وفي الأثناء كانوا يتعرفون على الوجه الحقيقي لتلك البلدان التي أرهقتها طويلاً البروباغندا والحروب والصور النمطية والكليشيهات عبر وسائل إعلام عالمية مهيمنة. هناك أميركا لاتينية مختلفة تتاخم مذاق الاكتشاف المتجدد.

ورغم أن الناقد ترك للقارئ حرية تذكر الكثير من الكتّاب الآخرين، فإنّ السمة البارزة في بلدان الموز والببغاوات والخلطات الغريبة في بهارات الطبخ، والملابس والبناءات وأنظمة الحكم والفنون والأعراق، هي التواطؤ الأدبي على صنع نصوص مبهرة، وهم من تلك السلالات التي تنتمي لأرض كتب لها بابلو نيرودا: "أكتب لأرض بالكاد جافة ولا تزال طازجة بالزهور وحبوب اللقاح ولوح الملاط". فلا أحد من هؤلاء الكتاب تبرأ في رواياته من تمازج الأجناس كالهنود والسود والخلاسيون والكريول والبيض والزمبوس.

ايزابيل الليندي.. قسوة التأليف 

غداة انقلاب بينوشيi في التشيلي، والاطاحة بحكم سالفادور الليندي والأحداث الدامية التي عصفت بالبلاد،هربت  الصحفية القديمة والروائية ايزابيل الليندي من البلاد وبدأت الكتابة منذ ذلك الحين، وتمت ترجمة أعمالها إلى أكثر من 40 لغة وبيعت من كتبها أكثر من 70 مليون نسخة.

تبدو الليندي وفيرة الحضور والانتاج على خارطة الأدب العالمي. فهي تواظب على ما تسميه  "عملها المحبب " منذ نشر روايتها الأولى "بيت الأرواح"، والنجاح الذي حققته. تقول الليندي إنها في سن الأربعين وبعد وفاة جدها حين كانت في المنفى، منحتها رواية "مئة عام من العزلة" ذرائع جيدة لتحويل حياتها إلى نص أدبي.

نشرت الليندي آخر عمل لها بعنوان "الريح تعرف اسمي"، وهي رواية عن المنفى واللجوء ورحلة تيه الفرد داخل مناخات اليومي ومتطلبات مواصلة الحياة. وتتحدث في أكثر من وسيلة إعلامية عن طقوسها في الكتابة وتعاملها مع القارئ ومع مادة سردها المتنوعة. فهي دأبت على جمع الأخبار والحكايات المثيرة لاهتمامها في دفتر شخصي يرافقها على الدوام، وهي التي تكتب بلا توقف طيلة النهار كل يوم في أشهر محددة طيلة السنة، تعرف القارئ جيداً وتفهم متطلباته وكيف يفكر بحكم الرسائل التي تصلها يومياً.

ولكن، كما ترى، قد تصنع التكنولوجيا الحديثة تواصلاً جيداً بين الكاتب ومعجبيه لكنها تعجز عن خلق مبدع، وكتاباتها ليست مرتبطة بالصيغة النموذجية للواقعية السحرية. فلكل رواية نموذج خاص، لكن تبقى كتابة الروايات وصفة علاجية للتخلص من الذكريات، كما حدث في روايتها "باولا" حيث أنها كتبت أنّ "أقدم حزن في العالم هو حزن الأمهات على موت أطفالهن".

أرنستو ساباتو..الفيزياء كذريعة لاكتشاف الأدب 

عام 1984 حصد أرنستو ساباتو جائزة ثيربانتس الاسبانية. كما حصل لاحقاً على جائزة ميديسس الفرنسية وفارس الأدب وجوائز أدبية مرموقة في إيطاليا وإسبانيا، قبل أن ينتهي به المطاف بعد عمره المديد بالعودة إلى وطنه الأم  الأرجنتين والموت هناك.

قضى ساباتو جزءاً من حياته متنقلاً بين الولايات المتحدة وإسبانيا مروراً بفرنسا. ففي باريس التي سافر إليها شاباً لدراسة الفيزياء أغوته الحركة السريالية بعد احتكاكه بأعلامها ومنهم أندري بروتون وتريستان تزارا وأوسكار دو ميخو، مما ساعده على أن يتخذ قرار التفرغ للكتابة والرسم، حبه الأثير منذ الطفولة، وكتب في صحف بلاده مقالات نقدية وفلسفية ومراجعة الكتب، إضافة الى أنشطته السياسية ومنها نقاشاته المشهورة مع الثائر الأممي تشي غيفارا التي طبعت بعد ذلك.

وكانت روايته الأشهر "النفق"، التي تحولت إلى شريط سينمائي، قد أعقبتها رواية "أبطال وقبور" و"ملاك الجحيم"،  هذه الثلاثية التي رصدت تاريخ الأرجنتين وحللت العلاقات الغامضة بين الخير والشر، وبين الحب والموت والعزلة. وقد عبّر ساباتو عن طريقته في الكتابة بقوله: "أعتقد أنّ الحقيقة مثالية للرياضيات والكيمياء والفلسفة ولكن ليس الحياة. في الحياة يبدو الوهم والخيال والرغبة أكثر أهمية".

خوسيه دونوسو.. رعب الكينونة 

لم تمنع حياة الترحال والمغامرة الروائي التشيلي خوسيه دونوسو من أن يكمل دراسته في الفيلولوجيا في اللغة الانكليزية، بعد منحة حصل عليها من جامعة برنستون.

وقد ساعدته حياته الجامعية على الدخول في الحياة الأدبية في الولايات المتحدة، وتأثر بالأدب الانغلو - ساكسوني. لكن هذا المعطى لم يكن حافزاً كافياً لعدم العودة إلى وطنه والمشاركة في تحرير بعض الدوريات منها "ارثيا ".

وقد لفتت روايته "طائر الليل البذيء" أنظار القراء والنقاد إليه، إلى جانب أعمال أخرى منها مجموعة قصص قصيرة ورواية "التتويج"، ثم كتابه "الرواية الشخصية للازدهار"، الذي يشرح فيه أسباب ازدهار الأدب الاتيني، وكذلك "الاختفاء الغامض للماركيزة دي لوريا"  و"ذلك الأحد".

لكن حياة دونوسو كانت تجربة سلخها على الورق منذ "طائر الليل البذيء"، التي تصنف كأكثر أعماله جنوناً وطموحاً، إذ استغرق العمل عليها 7 سنوات قبل أن ينشرها عام 1970، وتقام بهذه المناسبة حفلة كبيرة في برشلونة في منزل زيّنه بيكاسو مقابل كاترائية المدينة بوجود نحو 250 مدعواً.

حينها، كتب دونوسو: "لأول مرة ألعب دور الشخص الذي يلمس ورقة تغليف النصر. ولا أعرف ما هو الحقيقي والثمين فيه. ربما لا شيء أكثر حماقة من ذلك".

ولكن هذا العمل الذي لاقى حفاوة كبيرة، يذهب إلى أكثر المناطق قسوة وجحيمية وقتامة، ويبني سجوناً وعوالم خيالية مرعبة  مما  يشير الى أن ّخوسيه دونوسو استهلك من روحه وعالمه الشخصي الكثير ليصل إلى كل "ذلك النزق المبهر".

نشرت ابنته بيلار بعد وفاته كتاباً بعنوان "تغطى بالحجاب لتصمت"، وتسرد فيه مذكرات والديها ويكشف لقراء اللغة الاسبانية المعاناة المدمّرة التي رافقت الروائي الذي عدّ على رأس قائمة الكتاب العالمين في القرن العشرين.

ادواردو غاليانو.. جدوى أن تقول لا 

كان إدواردو غاليانو يقضي جل وقته بين التدريس في الجامعة والكتابة في فترة هامة من حياته، وعرف أكثر بمقالاته الصحفية السياسية في مجلة "مارشا". كما ترأس تحرير صحيفة "ايبوكا". عُرف غاليانو أيضاً بتجربة المنفى وإصداره مجلة "أزمات" ومقارعته للديكتاتورية وتشبعه بالأفكار اليسارية، ودفاعه رفقة مجموعة من مثقفي أميركا اللاتينية عن الحق في مجتمعات أكثر استقلالية عن هيمنة الولايات المتحدة.

آمن غاليانو بأن الكتابة شكل من أشكال النضال. في العام 2006 وقع مع مجموعة من المثقفين من بينهم ماركيز وساباتو وماريو بينيدتي، على البيان الشهير الذي أعلن تأييد سيادة بورتو ريكو واستقلالها عن واشنطن.

كما أن كتابه الشهير "الشرايين المفتوحة لأميركا اللاتينية"، الذي وصفه بعض النقاد الغربيين الموالين للمركزية الغربية بأنه مقال طويل وقح، كان تعرية لا غبار عليها لصوت الجنوب العميق لأميركا اللاتينية.

وسبق لايزابيل الليندي أن تحدثت عن هذا الكتاب الذي رافقها في رحلتها نحو المنفى، وسرّها أن تكتب مقدمته. وهو شرح لخمسة قرون من النهب والسلب لثروات أميركا اللاتينية واستعادة الذاكرة الدامية.

كتب غاليانو نحو 30 كتاباً شكلت انعكاساً لرغبته دفينة في قول لا لكل ما يحدث في الأورغواي. أما كتاب "ذاكرة النار"

فيمكن وصفه بجدارية ضخمة تصف المنطقة منذ عصر ما قبل كولومبوس. خلال عام 2008 وجه غاليانو خطاباً لساكن البيت الأبيض جاء فيه: "أن البيت الأبيض بني من قبل العبيد السود وأود وآمل ألا ينسى أوباما ذلك".

كتب غاليانو كذلك عن ليالي الحب والحرب وعن كرة القدم وعن الثورة ومجدها. ففي كتابه "العناق"، يصف غاليانو، الرمز تشي غيفارا ملخصاً مسيرته بقوله: "في اعتقادي، فإن القسم الأكبر من قوة غيفارا ذلك الزخم الملغز الذي يتخطى بكثير موته وأخطاءه. ويتأتى من واقع بسيط جداً. كان تشي ذلك الانسان النادر الذي يقول أفكاره ويمارس أقواله".

خوليو كورتاثار.. عبثية الوجود  

خصصت الأرجنتين عام 2004 سنة كاملة للاحتفال بكاتبها الأكثر شهرة خوليو كورتاثار. الكاتب الذي ترك 25 عملاً أدبياً يضم دواوين شعرية وقصصاً ومسرحيات.

وعرف عنه بأنه، بعد حصوله على جائزة ميديسيس، قدّم ثمنها هدية للمقاومة التشيلية، وأقام جسراً للتواصل مع الثورة الكوبية ودافع عن طموحاتها من دون أن يتماهى معها.

وكان يقول: "إننا في أمسّ الحاجة الى تشي غيفارا. إلى لغة الثورة في الأدب أكثر مما نحتاج إلى متعلمي الثورة".

واشتهرت روايته "الحجلة" بلعبة القفز بين المربعات، والتي تصنف بأنها من أكثر الأعمال السوريالية إثارة للجدل، حيث كسر شكلية الزمن متجاوزاً أحياناً الحقيقة بوصفها شكلاً من أشكال الخيال، تاركاً للقارئ حرية الاختيار للبدء بقراءة فصول هذه الرواية.

كورتاثار المترجم وأستاذ الأدب الفرنسي الذي عاش بعيداً من الأرجنتين كان يقول: "فقط في الأحلام وفي الشعر وفي اللعب نصل أحياناً إلى ما كنا عليه قبل أن نكون هذا الشيء الذي نحن عليه"، ويذكر دائماً أنه لا بد من مزج العمل الأدبي بمسحة شاعرية كمتنفس من عبثية الوجود.   

* بثينة الزغلامي