نهاد صليحة .. أكبر من المسرح و أوسع من الحياة
سمية رمضان-أخبار الأدب
ليس أصعب علي القلب من أن يرثي المرء أمثال نهاد صليحة. لا لأنها قد غابت عنا لتوها ولم يستوعب العقل بعد أبعاد ذلك الغياب، ولكن أيضا لأن هناك من نعلم أنهم سوف يستمرون في وجداننا أحياء حتي إذا غابوا تشوقنا لوجودهم دون أن يشوب ذلك التشوق حس بأننا فقدناهم.
كانت نهاد صليحة إذا دخلت مكان بادلتها ذبذبات المكان و أمواج أصواته إيقاعها السريع القوي فيتحول كل موقف مهما كان عابرا إلي دراما كاملة الأركان، وكان ذلك يبهرني ويخيفني مثلما يبهر و يخيف المسرح الناس فيعودون ليستزيدوا من هذا الحس الذي يجعل الحياة أكبر من المسرح ويجعل المسرح أوسع من الحياة. كانت نهاد من هذا الصنف الذي وإن أنجز كتابة كما أنجزت هي في مجال النقد المسرحي و الترجمة و التدريس الأكاديمي ما لا يعد و لا يحصي من كتب ومقالات - إلا أن إنجازها الأهم يظل مكانه قلوب الناس و حيواتهم. هي مثل مشاهير الشخصيات في المسرحيات الأهم، نعرفهم و نتحدث عنهم و نشير و ننوه إليهن لا بوصفهن بطلات مسرحيات "إبسن" أو "شكسبير" أو "أولبي" أو "هارولد بنتر" ولكن لأن حيواتهن و شخصياتهن و سطورهن التي كتبت خصيصا لهن تشير إلي أبعد من كونهن شخصيات عظيمة في مسرحيات نحفظها عن ظهر قلب لأننا نعود إليهن كلما وجدنا في استدعائهن عونا علي توصيف أو فهم الحياة بعيدا عن نطاقهن داخل دفتي كتاب أو وقفتهن علي خشبة مسرح ما. سر قوة تأثير مثل هذه الشخصيات يكون في تلك المساحة الزئبقية ما يبن الكتابة الكلام. الكتابة الملتزمة بالقواعد والأعراف وشفاهية القول المنطوق في اللحظة وكأنه تلقائي تماما ومفعم تماما بالعاطفة التي تمليها اللحظة. هو قول يقف علي شفا الكتابة أو كتابة علي شفا القول يلقي بهدف تطوير الحدث دائما حتي عندما يكون ما يلزم تطوير الحدث أبعد ما يكون عن فكرة الصراع. ربما عاد ذلك لكون نهاد كانت صرحت مرة في حديث لها أنها كانت تتمني أن تكون ممثلة مسرحية لكن الأعراف والتقاليد وقفت دون ذلك الحلم. وظل المسرح هوسها و قلقها و همها الأهم. لم يكن لديها صبر علي السرد و كثيرا ما عبرت عن انحيازها هذا:
خدي والنبي يا سمية راجعي الرسالة دي أنا ما عنديش طقطان للت والعجن بتاع الروائيين ده.
فأبتسم وتبتسم هي أيضا وكأنها تعلم أني أحب السرد بمثل ما تحب هي المسرح. وترد علي التليفون في إعياء من يعلم أنه سوف يسمع قصة تمله فتتنهد:
- أيوه يا سمية...
فأسرع في حديثي و ألخصه في نقاط ولا أدري إن كانت تعلم مدي تفهمي لانزعاجها بتفاصيل الإدارة و اللوائح التي دائما ما اعتقدت أنها شيء هامشي، شكلي، زائف بل مجحف و ظالم أحيانا لا يعكس الحقيقة و لايعطي من يستحق حقه. وبالتالي خاضت من المعارك في سبيل الآخرين أكثر بكثير مما خاضت من معارك لنفسها. كانت إذا ووجهت باعتراض تفتح عقيرتها عن آخرها: ما لكم لا تتحملون المبدعين؟ حتي أنني اضطررت يوما أن أذكرها أن ليس كل مبدع قادرا علي التدريس لكني، لا اعتقد أن رسالتي وصلتها فقد كان الإبداع بالنسبة لنهاد صليحة هو المسوغ الوحيد للوجود في الحياة تحت أي ظرف، أيا كان السياق. كان لديها مثل كل من له دم حر يجري في عروقه حس بأن الفنون وحدها هي ما يعطي الحياة معانيها و أن اطلاق يد الفنانين و يا حبذا طبعا لو كانوا من المسرحيين و بالذات الشابات و الشباب منهم هو قضية تستحق أن يفني المرء عمره فيها. و لذا فإن نهاد صليحة لم يكن لها فقط طلبة و تلاميذ ولكن كان لها حواريون و مريدون استطعموا سر السحر الذي كانت تجلبه لهم هي من تفكيك المشاهد و تفسير الإشارات و العلامات سواء في محاضراتها بأكاديمية الفنون أو بعد انتهاء عرض من العروض علي قهوة في الشارع أو بالطبع في تعليقها علي أهم عروض الاسبوع في الصحف. لقد ابتدعت نهاد لقراء الأهرام ويكلي وغيرها أسلوبا مميزا في العرض يحترم القاريء غير المتخصص ويفي بالحق المعرفي للمتخصصين. هكذا عرفتها تلك الشابة دائما ذات العيون الخضراء والشعر الكستنائي تجلس القرفصاء في عروض المسرح التجريبي وهي رئيسة أعلي لجانه، لا تحمل ورقة ولا قلما. لو كان ما يعرض يعجبها تراها مشدودة من رموش عينيها طيلة العرض وكأنها تتشرب الكلمات و الحركات ولو لم يعجبها نسأل بعضنا البعض:
- هه نهاد نايمة ولا صاحية؟
لكنها لم تكن تعلق علي ما أنامها من عروض، فقط تلك التي شدتها من رموشها فإن كتبت عنه كان ذلك شهادة ميلاد تستحق الاعتبار. لا انسي يوم طلبني "فرانك برادلي" وكان وقتها رئيس قسم الفنون الأدائية بالجامعة الأمريكية ليقول لي إنه عرف أن نهاد صليحة كتبت عن عرضه الأخير و يود مني ترجمة ما قالت، فما كان مني إلا أن أنبأته أنها كتبت له بالإنجليزية في الويكلي فكان سروره دون أدني مبالغة سعادة طفرت في كلمات ممتنة من فنان شغوف علي فنه لناقدة و أكاديمية ملء السمع و البصر وقد أجازته بامتياز.
عندما شح انتاج الشباب و خاضت نهاد غمار معركة شهيرة كانت دورة المهرجان التجريبي قد ألغيت و بالتالي كان سيتم إلغاء عروض الهامش للمسرح المستقل قابلتها غاضبة متوترة وجهها ينطق بثورة مئة بركان:
-طيب مفهوم لغينا التجريبي عشان الحرب في الكويت. ماله بقي التجريبي و المسرح المستقل؟ انت عارفة الولاد دول تعبوا قد إيه ؟! عندك أي فكرة اشتغلوا علي نفسهم قد إيه؟!
كانت تحدثني و كأنني مسئولة شخصيا عن كل من قيام الحرب و إلغاء المهرجان و التعدي علي حقوق شباب المستقلين. لكنها في النهاية كسبت الجولة لصالح الشباب و لقيتها فرحة:
الحمدلله الولاد دول كانوا اتقهروا لو ما عرضوش.
كانت عروض الشباب مهما كان مستواها محل اهتمام بالغ منها وحدب كبير علي التشجيع وكانت مطلعة علي كل عرض مهما كان مكانه أو حجمه حتي أنها كتبت مقالا طويلا في الويكلي عندما بدأنا عروض إعادة حكي حكايات ألف ليلة من منظور نسوي في مؤسسة المرأة والذاكرة وكان لمقالها وقع السحر في النفوس فتتطور العرض حتي أنه أصبح يمسرح بعد أن كان يسرد و أصبح له مخرجات و موسيقيون.
مما لا شك فيه أن نهاد صليحة تركت لكل من تعامل معها حتي دون أن يكون بالضرورة مقربا منها بصمة في روحه لن ينساها فما بالنا بأسماء مثل نورا أمين، وداليا بسيوني اللواتي كانت تتطلع نهاد أن يقمن علي القسم الذي أنشأته في المعهد العالي للنقد الفني وأسمته "التنشيط الثقافي". لم تكن نهاد تري فوارق تذكر بين الفن والحياة وكانت علي ثقة من أن أحد أهم معوقات وصول المسرح إلي جمهور أوسع هو عدم اعتبار فنون التسويق والإدارة ومن هنا جاءت فكرة قسم التنشيط الثقافي الذي لم يكتب له الاستمرار.
كان آخر ما قاله لي الأستاذ الدكتور أحمد بدوي ونحن نواسي و نعزي بعضنا البعض:
تيتمنا، كانت نهاد أمنا جميعا حتي حين كانت أصغرنا.