الاستبداد حين يختطف العقل: قراءة في واقعة اختطاف الدكتور حمود العودي
في بلدٍ أنهكته الحروب والتنازع على السلطة، يبدو أن الطغيان لم يجد ما يخشاه بقدر ما يخشى الكلمة الحرة والفكر المستقل.
فاختطاف الأستاذ الدكتور حمود العودي — أحد أبرز المفكرين الاجتماعيين في اليمن ومؤسس المدرسة النقدية المعاصرة في دراسة البنى القبلية والمجتمعية — ليس مجرد حادثة أمنية عابرة، بل هو مرآة كاشفة لجوهر النظام القائم في صنعاء ومن يقفون خلفه، وإعلان جديد بأن دائرة القمع لم تنكسر بعد، بل تعيد إنتاج نفسها في أشكال أكثر شراسة وتجهيلًا.
من سيرة الفكر إلى سجن القهر
حمود العودي ليس مجرد أكاديمي، بل هو ذاكرة حية للحركة الفكرية اليمنية منذ سبعينيات القرن الماضي، حمل همّ التنوير في مواجهة ثقافة الجمود والوصاية.
وهو المفكر الذي عاش مرارة السجون في فترات متعددة بسبب آرائه ونقده الجريء للسلطة، سواء في عهد الجمهورية الأولى أو الأنظمة التي تلتها.
ومع ذلك، ظلّ صامدًا، مؤمنًا بأن الفكر أقوى من الجدران، وأن المجتمعات لا تُبنى إلا على قاعدة الحرية والعقل.
اختطافه اليوم، في زمنٍ يُفترض أنه تجاوز مرحلة الوصاية على الفكر، هو صفعة للتاريخ ولضمير الأمة.
فالذين يعتقلون الكلمة إنما يكشفون عن هشاشتهم البنيوية، عن خوفٍ دفينٍ من صوتٍ مختلف، وعن رغبةٍ غريزية في إسكات العقل حتى لا تُفضح حقيقة مشروعهم القائم على الاستتباع والإلغاء.
الاستبداد كمنظومة لا كحادثة
ليست هذه الحادثة الأولى، ولن تكون الأخيرة في سلسلة الاعتداءات الممنهجة على الوعي والنخب اليمنية.
فحين تُختطف الحرية، ويُساق الأكاديميون والمفكرون إلى السجون، فذلك يعني أننا أمام سلطة لا تحكم بالقانون، بل تتغذّى على الخوف وتصنع شرعيتها من الصمت.
إنها امتداد طبيعي لدائرة الاستبداد التاريخي التي عرفتها اليمن عبر قرون:
من الإمامة إلى الدولة المركزية إلى سلطة الجماعة.
كلٌّ منهم يرفع شعارًا مختلفًا، لكن المضمون واحد: مصادرة الإرادة الجمعية واحتكار الحقيقة.
إن الاستبداد في صورته الراهنة بلغ ذروته:
فالمواطن جائع، والموظف بلا راتب منذ تسع سنوات، والدولة تحوّلت إلى سلطة جباية لا رعاية، والدستور صار مجرد ورقة منتهية الصلاحية.
ومع ذلك، لا تزال آلة القمع تعمل بأقصى طاقتها، كأنها تحاول تثبيت واقع هشّ لا يدوم إلا بالخوف.
حين يصل الطغيان إلى منتهاه
التاريخ يعلمنا أن الأنظمة التي تبلغ أقصى درجات القمع والتجويع هي ذاتها التي تقترب من نهايتها.
فحين يُخنق الهواء وتُصادر اللقمة والفكرة معًا، تنفجر الشعوب من رحم الصمت.
لقد وصل المشهد اليمني إلى لحظة مأزقية مركّبة: جوعٌ ماديّ، ومصادرةٌ فكرية، واحتكارٌ رمزيّ للهوية والدين والوطن.
وهذه الثلاثية هي العلامة الكبرى على قيامة الاستبداد في صورته المطلقة، التي لا تترك مجالًا للمناورة إلا بالانفجار أو التغيير الجذري.
رمزية العودي… ودرس الحرية
في كل مراحل التاريخ، كان الفكر هو أول ضحايا الاستبداد، لكنه أيضًا أول من يبشّر بزواله.
إن حمود العودي اليوم ليس مجرد معتقل، بل هو رمز لمعركة الوعي ضد الظلام.
الحرية له، ولرفاقه المهندس عبدالرحمن العلفي والأستاذ أنور شعب، ليست مطلبًا شخصيًا بل قضية وطنية تعني أن العقل اليمني لا يزال يقاوم رغم محاولات تكميمه، وأن الكلمة لم تمت رغم الجوع والسجن والخذلان.
الخلاصة :
الحرية لا تُختطف
قد تُختطف الأجساد، وقد تُصادر الأصوات، لكن لا أحد يستطيع أن يختطف روح الحرية.
إن ما يحدث اليوم في صنعاء ليس سوى الفصل الأخير من رواية طويلة كتبها الطغاة ويمزقها الأحرار.
وكلما اشتدّ الليل، كان ذلك إيذانًا بقرب الفجر.
المجد للعقل… والحرية للدكتور حمود العودي ورفاقه.
ولا عزاء لمن يظن أن السجن يطيل عمر الاستبداد.
مـــصـــطــفـــى بن خالد