أهمية دعوى جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية

 أن تكتب عن مأساة البشر فهذا أمر قد يؤدي إلى انقباض النفس والشعور بالأسى، فكيف إذا كنت تكتب عن مأساة تعيشها أنت أو يعيشها أبناء شعبك! هنا، يكون الحبر دمك، وصرير القلم صوت أنينك. عندما تكتب عن مأساتك، تكون أقرب شيء إلى تماهي الكلمة مع الشعور النابع من أعماق مأساة قد تكون الأشد فظاعة في التاريخ.

الحروب والصراعات قديمة قدم البشر، لكن ما يحدث في غزة الآن مأساة تتمثل في أن شعباً فُرضت عليه حرب شاملة تهدف إلى إبادته كعرق بشري؛ فمن لم يمت بالقنابل والصواريخ والرصاص يموت من الجوع أو البرد أو انعدام الرعاية الطبية أو المياه الملوثة أو انعدام شروط الحياة الصحية، كل هذا مخطط له ومقصود، إذ إنه ليس مجرد أضرار جانبية للحرب، بل هو جزء من خطة الحرب وهدفها واستراتيجيتها.

لقد ضاق العالم ذرعاً بجرائم "إسرائيل"، وعانت عزلة هي وحليفتها الولايات المتحدة، فكان أن قدمت دولة جنوب أفريقيا في 29 كانون الأول/ديسمبر 2023 طلباً لمحكمة العدل الدولية لإقامة دعوى ضد "إسرائيل" فيما يتعلق بتهمة انتهاكات لالتزاماتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها فيما يتعلق بالفلسطينيين في قطاع غزة. 

عقدت المحكمة جلستي استماع علنيتين بشأن طلب الإشارة إلى التدابير المؤقتة الذي قدمته جنوب أفريقيا يومي الخميس والجمعة 11 و12 كانون الثاني/يناير. وفي 26 كانون الثاني/يناير 2024، أصدرت المحكمة أمرها بضرورة أن تتخذ "إسرائيل" كل ما بوسعها لمنع جميع الأعمال التي تتضمنها المادة الثانية من اتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها فيما يتعلق بالفلسطينيين في غزة.

صدر نص الدعوى في كتاب عن مركز القدس للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان (JLAC)، بعنوان: "نص دعوى جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية"، والذي جاء في 128 صفحة من الحجم المتوسط.

تناول الكتاب إجراءات تقديم الطلب ومقدمة حول الموضوع، واختصاص محكمة العدل الدولية، والحقائق والأدلة على وقوع جرائم إبادة، وأعمال الإبادة الجماعية المرتكبة ضد الشعب الفلسطيني، ومطالب جنوب أفريقيا، والعدالة الملتمسة، وطلب الإجراءات المؤقتة.

في إجراءات تقديم الطلب، فإن دولة جنوب أفريقيا تقدمت إلى محكمة العدل الدولية بالتماس لاتخاذ تدابير مؤقتة لحماية حقوق الشعب الفلسطيني من خطر الإبادة وفقاً للمادتين 36 ([1]) و40 من النظام الأساسي للمحكمة، والمادة 38 من لائحة المحكمة. الطلب جاء فيه أنَّ أفعال "إسرائيل" لها طابع الإبادة الجماعية، لأنها ارتكبت بقصد محدد عن سابق إصرار لتدمير الفلسطينيين في غزة كجزء من المجموعة الوطنية والعرقية الإثنية الفلسطينية الأوسع.

بخصوص اختصاص محكمة العدل الدولية، فنظراً إلى كون دولة جنوب أفريقيا و"إسرائيل" عضوين في الأمم المتحدة وفي اتفاقية الإبادة الجماعية، ونظراً إلى قلق وتحذير جنوب أفريقيا من أن تصرفات "إسرائيل" تشكل إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني، ونظراً إلى امتثال جنوب أفريقيا لالتزامها بمنع الإبادة الجماعية، وامتثال "إسرائيل" لالتزامها بعدم ارتكاب الإبادة الجماعية ومنعها والمعاقبة عليها، وبالنظر إلى كل هذا، تقدم جنوب أفريقيا دعوى ضد "إسرائيل" لبت نزاعها فيما يخص تفسير اتفاقية الإبادة الجماعية وتطبيقها، ولأن المحكمة تتمتع بالولاية القضائية للنظر في الدعاوى المقدمة بهذا الخصوص.

بالنسبة إلى الحقائق والأدلة، فإن دولة الاحتلال شنت هجوماً واسعاً براً وبحراً وجواً على قطاع غزة، وقال التقرير إن الهجمات بعد شهرين من الحرب أحدثت دماراً أكبر من قصف الحلفاء لألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية، فما بالك الآن بعد ما يزيد على 4 أشهر من القصف المتواصل!

كما أن مقتل عشرات الآلاف من المواطنين، غالبيتهم غير محاربين، وانعدام وجود مكان آمن في غزة وانتشار الأمراض الوبائية والضغط على السكان لتهجيرهم، والتدمير المتعمد للنظام الصحي، والتضييق على إمكانية وصول المساعدات الإنسانية... كل هذا وغيره يشير إلى الإبادة الجماعية. ومما يؤكد ذلك دعوة المفوض العام للأونروا إلى "وضع حد لإهلاك غزة وشعبها".

جاء في أعمال الإبادة الجماعية المرتكبة ضد الشعب الفلسطيني أنها تتمثل في قتل الفلسطينيين على نطاق واسع إلى درجة دفن الجثث في مقابر جماعية مجهولة الهوية، وإسقاط قنابل تزن 900 كغم، وتصيب إصابات بليغة على مسافة 800 متر من نقطة الارتطام. 

وبالنسبة إلى قتل الأطفال، فقد وصل حد وصف غزة بأنها "مقبرة للأطفال"، كما أن القتل لا يستثني أحداً، إذ يُقتل الأطباء والصحافيون والأكاديميون وسائقو سيارات الإسعاف والعاملون في الدفاع المدني وعمال الإغاثة. كما يتعرض الفلسطينيون لخطر الموت بفعل الجوع والجفاف والمرض وعدم السماح بوصول المساعدات الكافية إليهم.

تتجلى الإبادة الجماعية بالتسبب بأضرار جسدية ونفسية للفلسطينيين بفعل الفسفور الأبيض الذي يسبب حروقاً عميقة، وعدم توفر العلاج وانتظار الموت. كما أن هناك أضراراً نفسية وعقلية للحصار والخوف والقتل الممنهج الذي تمارسه "إسرائيل"، ويتعرض الفلسطينيون لمعاملة قاسية ولاإنسانية في حال اعتقالهم من قبل جلادي الاحتلال.

ومن مظاهر الإبادة الجماعية، الطرد الجماعي للفلسطينيين من منازلهم، وحرمانهم من الوصول إلى الغذاء والماء الكافي والنظافة الصحية والمساعدة الطبية، وتدمير الحياة الفلسطينية، إذ تعمد "إسرائيل" لتدمير وقتل كل شيء من دون حصانة لأي شيء، فقد دمرت المنازل والمساجد والكنائس والمستشفيات والمقابر والأسواق والجامعات والمكتبات والسجلات والمؤسسات الخدمية والحكومية والمتاحف والآثار.

لقد قتلت "إسرائيل" رئيس الجامعة الإسلامية البروفيسور سفيان تايه عالم الفيزياء والفلك، والدكتور أحمد أبو عبسة عميد قسم البرمجيات في جامعة فلسطين، والبروفيسور محمد شبير أستاذ علم المناعة والفيروسات في الجامعة الإسلامية وغيرهم. كما تسعى "إسرائيل" لتفرغ حقدها على الإنسان الفلسطيني بمنع ولادة أطفال فلسطينيين عبر تعريض الأمهات الحوامل أو الأطفال الجدد لظروف صحية تمنع ولادة سليمة وآمنة.

أما عن تعبيرات نية الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني من قبل المسؤولين الإسرائيليين، فقد كانت تصريحات المسؤولين الإسرائيليين تشي بالأدلة الجرمية على نية الإبادة الجماعية، منها مثلاً استحضار بنيامين نتنياهو قصة تدمير العماليق من قبل بني إسرائيل: "يجب عليك تذكر ما فعله العماليق بك، كما تقول كتبنا المقدسة، ونحن نتذكر". 

أما الرئيس الإسرائيلي هرتسوغ، فقال إن "إسرائيل" لا تميز بين المسلحين والمدنيين في غزة، ووزير الحرب غالانت قال يوم 9 أكتوبر إنَّ "إسرائيل" تفرض حصاراً كاملاً على غزة. لا كهرباء، لا طعام، لا ماء، لا وقود، كل شيء مغلق. نحن نقاتل حيوانات بشرية. وزير التراث الإسرائيلي قال أن لا وجود لمدنيين غير متورطين في غزة. وتنشر رسائل في وسائل الإعلام الإسرائيلية تدعو إلى محو غزة من الوجود... وقائمة التصريحات تطول وتطول. التصريحات والممارسات الإسرائيلية دقت جرس الإنذار لدى مؤسسات الأمم المتحدة ومنظمة العالم الإسلامي، إذ إن ذلك أعطى دليلاً على النية والممارسة الإسرائيلية في تنفيذ إبادة جماعية.

بخصوص مطالب جنوب أفريقيا، فإنها ترى أن "إسرائيل" تنتهك التزاماتها بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، فقد فشلت في منع الإبادة الجماعية وتآمرت وارتكبت وحرضت واشتركت في الإبادة الجماعية، وفشلت في معاقبة الإبادة الجماعية، وفشلت في سن التشريعات لتفعيل اتفاقية الإبادة الجماعية، وعرقلت تحقيق هيئات دولية بشأن الإبادة الجماعية.

بخصوص العدالة الملتمسة، تطلب جنوب أفريقيا من المحكمة أن تحكم وتعلن أن جمهورية جنوب أفريقيا و"إسرائيل" لهما واجب العمل وفقاً لالتزاماتهما بموجب اتفاقية منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية، وأن "إسرائيل" خرقت التزاماتها بموجب الاتفاقية، وعليها أن توقف فوراً أيّ أعمال وتدابير تخالف تلك الالتزامات، وأن تعاقب الذين يرتكبون الإبادة الجماعية، وتعوّض الضحايا الفلسطينيين، وتقدم ضمانات بعدم تكرار انتهاك اتفاقية الإبادة الجماعية.

طالبت جنوب أفريقيا المحكمة الدولية باتخاذ إجراءات مؤقتة لحماية الشعب الفلسطيني من الإبادة الجماعية، وتتمثل مطالبها في تعليق "إسرائيل" عملياتها على الفور، وأن تتخذ وجنوب أفريقيا إجراءات لمنع الإبادة الجماعية، مثل أعمال القتل والتسبب بالأذى الجسدي أو العقلي أو فرض ظروف دمار أو منع الولادات لدى الشعب الفلسطيني. 

طالبت المحكمة "إسرائيل" بتقديم تقرير إلى المحكمة عن جميع التدابير التي اتخذتها لتنفيذ مطالب المحكمة خلال أسبوع واحد، وبعد ذلك بفترات منتظمة، لحين اتخاذ المحكمة قراراً نهائياً حول القضية.

أخيراً وليس آخراً، يمكن القول إن العدالة التي غابت عن فلسطين منذ قرن أو يزيد دفعت البعض إلى الشك في أن هناك عدالة أو قانوناً دولياً أصلاً، لكن لا مناص أمام الفلسطينيين سوى اغتنام أي فرصة للجم عدوان وعنجهية العدو بأي طريقة كانت. 

وقد يكون اللجوء إلى محكمة العدل الدولية إحدى هذه الوسائل.

* لبيب فالح طه