إمكانية إحلال ثقافة السلام في اليمن

يحيلنا مفهوم ثقافة السلام في اليمن إلى التعرض لمفهوم السلام العالمي الذي طرحه العديد من الفلاسفة الداعين للسلام العالمي بوصفه احترام الدول لسيادة بعضها البعض ونبذ العداء  الذي لا عودة عنه من منظور جماعة غير متجانسة إيديولوجياً. 

 لنعد إلى التجربة الأوربية بعد حرب الثلاثين عاما وحربين عالميتين وتجربتها في السلام منذ 1945 والتي ابتدأت بالمصالحة الألمانية _ الفرنسية والدور الخاص الذي لعبه هذان البلدان في البناء الأوربي الذي جسد مفهوم السلام على صعيد الواقع الأوربي، حتى شمل كل الشركاء الأوربيين واستبعد كل أخطار الصراع من خلال التفاوض المنظم، وخلف كل هذا سعت الثقافة إلى تفضيل الإندماج من خلال تغيير العقليات والرؤى المتبادلة، والسلوكيات المجتمعية،د والفردية ، ورغم  صعوبة هذا المشروع بسبب تنوع الثقافات الوطنية إلا أن ثقافة السلام خيمت على أوروبا وهو ما سعت إليه جميع الحكومات المتعاقبة نتيجة المصالح المشتركة والانفتاح على العالم وأخذ الدروس من التاريخ والحروب التي لم تخلف سوى الدمار.

إن مظهر ثقافة السلام في اليمن يختلف تماماً عن مظاهر التجربة الأوروبية لوجود مقومات أكثر قد تسهم في تحقيق السلام وتجاوز مآسي الحروب لأننا شعب واحد وثقافاتنا واحدة وإن اختلفت قليلا بمؤثرات المجتمعات القبلية وفرض ثقافة المذاهب الدينية الدخيلة على المجتمع اليمني المستوردة من الخارج والتي لعبت الدور الكبير إلى جانب النزاع على السلطة في تأجيج الصراع وإشعال الحروب ، كما أن ثقافة السلام في حدها الأدنى تطرح قضية مضاعفة: قضية أهميته في فضاء لا يكف عن التوسع التدريجي وقضية استجلاب الخلافات التي عفى عليها الزمن والتي تمثل عائقاً كبيراً أمام نشر ثقافة السلام إضافة إلى تردي عملية التوعية وتغيير العقلية التكفيرية لدى الأغلبية العامة التي تشبعت بالثقافة الدينية السطحية ذات الأبعاد التصادمية مع الآخر.

ومع كل ذلك فإن ثقافة السلام كانت ومازالت حاضرة، فهناك عدد كبير من النصوص في أغلب أنماط التراث الشعبي اليمني تدعو إلى السلام، وتعلي من قيمته. فالإنسان بطبعه يحب أن يعيش بسلام، والحرب ليست إلا نزوة من نزواته، أو تصوراً خاطئاً يتعلق بكون الحرب من الضرورات المرتبطة بقضية كرامة الذات وشرفها من حيث موقعها في العالم وعلاقتها بغيرها. وفي كل مجتمع، وفي كل زمان يوجد المصلحون المحبون للسلام، كما يوجد الداعون إلى الحرب.

إن التفكير الجمعي والوعي المجتمعي الذي ورثه اليمنيون منذ آلاف السنين من تاريخهم يتميز بإرثين رئيسيين هما: إرث الحضارة الذي يمتد لأكثر من عشرات آلاف من السنين، وإرث القبيلة وفقاً لقواعد يلجأ إليها الناس لفض منازعاتهم.

ما يبدو غائباً حالياً في المعادلة المعقدة هو تواري الإلتزام بالولاء للوطن والدستور عند الممسكين بزمام السلطة كلاً بحسب المنطقة المسيطر عليها، مما يجعل من فكرة التوصل إلى بداية في مسار السلام المستدام أمراً ليس بالسهل، وخصوصاً أن الدفاع عن المصالح الخاصة أو المناطقية أو المذهبية هو المحرك الأهم لكل القرارات التي يتخذونها ويدافعون عنها.

إن فكرة السلام ليست محصورة في وقف الإقتتال، ولكنها تعني أيضاً وجوب استعادة الضمير الوطني الجامع والمشترك عند اليمني البسيط والتغيير من ثقافته العدوانية التي أفرزتها حرب ثمان سنوات مصحوبة بثقافة الجهاد والموت والتخوين والتكفير التي هيأت أرضية خصبة لاستمرار النزاع وعدم التوصل إلى السلام، والغائب عند حكام اليوم في صنعاء وعدن ومأرب وخارج اليمن الذين يدركون أنهم لا يعيشون ولا يقتاتون إلا على الحرب وضحاياها.

ما يُغفله الجميع أيضاً أن المكونات والأفراد الذين أتت بهم الحروب وأوصلتهم للحكم وكوّنوا ثرواتهم أثناء الحرب لا يمكن أن يكونوا أدوات للسلام، فالإشكالية تكمن في ان المعيقين للسلام هم أنفسهم المفاوضين لإنهاء الحرب وإحلال السلام. مع أن معطيات ثقافة التعايش والتفاوض أثناء الأزمات أو بعد الإنتصار تساعد البشر بعضهم البعض لتحقيق طريق السلام والشراكة على طريق النمو والإزدهار والتعايش السلمي، وهذا ما تفتقر إليه المكونات المتحاربة في اليمن والممسكون بالقرار داخل هذه المكونات، لأنهم لا يأخذون بمعطيات التفاوض والقبول بالآخر حتى يمكنهم  النصر الحقيقي ونبذ التناحر والتقاتل التعيس بين أبناء الشعب الواحد.

 ولا شك أن هذا السلوك لم يجسد أهم معطيات العصر باعتبار التفاوض والتفاعل مع الآخرين يمكننا من السلام ومن ثم امتلاك قدرات العلم والتكنولوجيا والتفوق واللحاق بركب العالم المتحضر، الذي بدوره سوف يتعامل معنا من موقع الند وليس من موقع التبعية.

*دبلوماسي وسياسي يمني