اختفاء عوامل الحياة السياسية في اليمن

 إن العامل المؤسسي في اليمن بدأ بالتلاشي منذ فترة حتى اختفى اليوم من الوجود تماما مع استمرار الحروب وصراع المليشيات المتناحرة والتدخلات الخارجية التي اخفت الكثير من العقول ودور الأحزاب السياسية والمجتمع، ولم يعد من الحياة السياسية سوى مسميات الأحزاب والكتل التي تدار من قبل الجماعات المسيطرة على مؤسسات الدولة حتى أصبحت الجمعيات محصورة بين كماشة القوى التقليدية النافذة.

 أما الرأي العام ومساهمة المواطنين في الحكومة والإدارة فقد أصبح ضرباً من الخيال، وهنا استعمالنا لكلمة “القوى” خارج عن نطاق المسمى الحقيقي لتلك المجاميع المسلحة التي تتفرد كل مجموعة بسيطرتها على جزء من الوطن الممزق، الأمر الذي تسبب في تلاشي قوة الدولة وبالتالي اختفاء العمل المؤسسي لمكون الدولة، فلو عدنا للائحة النموذج للاونسكو في فقرتها الثالثة في وصفها العمل المؤسسي بأنه ” مجتمع سياسي” يتشكل من الأحزاب السياسية، والكتل، والجمعيات، والرأي العام، ومساهمة المواطنين في الحكومة وإدارة الدولة، في خانة مستقلة عنوانها ” أحزاب، وكتل ورأي عام” ومن هنا فالدولة ليست المجتمعات الدينية أو المذهبية أو القبلية بل هي المجتمع الإنساني الكبير الذي تتفرع منه المجتمعات العائلية والمهنية والدينية بمختلف أطيافها والقبلية بمختلف تعدداتها وهي ضرورية لبناء الدولة وإدارة مؤسستها.

ولكن أن يحل أحد فروع هذه المجتمعات محل الدولة ويفرض أجنداته وأفكاره من خلال سيطرته على مؤسسات الدولة فهنا تحل الكارثة وتتلاشى كل عوامل مقومات الدولة، مع أن الدولة نفسها لا يمكن اختزالها بها. إن المدنية هي للفرد النتيجة القيمة لوضعه، ولكنها امتياز أمام عالم متعدد، في المجتمع السياسي المتجسد تاريخياً وجغرافياً بطرق متعددة، فهو يخضع من جهة إلى مؤثرات سائدة، ويعاني، من جهة أخرى، بتأثيرات وردات فعل الأوساط الإجتماعية التي يتداخل معها، وهو ما استغلته المكونات الدينية التي سطت وبسطت على مكونات الدولة ومؤسساتها واستبدالها بأفراد “ولاة” تخضع في الولاء لفرد هزم الجماعة ليحل الفرد مكان المؤسسة فتغيب الحياة السياسية ومعها تختفي مؤسسات الدولة وتسيطر الدكتاتورية الفردية منها بغطاء الدين وسلطة الله ومنها بغطاء المناطقية ومنها بغطاء الشرعية الدستورية التي هي  في الأساس مفقودة والجميع منقلب عليها فلا شرعية مالم تفرض سيادتها وتعيد للدولة مؤسساتها وللحياة السياسية سيطرتها، فالحقوق غائبة ومنهوبة والحريات مقيدة والوطن ممزق بين مليشيات متناحرة.

نحن اليوم أمام مشكلة اجتماعية قبل أن نكون أمام  مشكلة اختفاء الحياة السياسية وتلاشي مؤسسات الدولة، إن المؤثرات السائدة للحياة في المجتمع اليمني الذي سيطر عليه الانغلاق والمؤثرات الدينية التي استغلت محدودية ثقافة المجتمع الذي هو في الأساس مجتمع ديني قبلي تغلب عليه العاطفة تحت مؤثر واحد “الدين” وتأثير الأموات عليهم ” آل البيت والصحابة” واستجلاب خلافاتهم ونزعاتهم على واقعنا اليوم حتى أن علماء المجتمع الذين درسوا المؤثرات وخرجوا من طور المؤثر الواحد إلى الثالوث المنظم ” الارض والآلهة والحياة..

وأضيف عاملاً رابعاً الأموات الذين يتكلمون كما قال “اوجين ملشيور دي فوغ” مردداً صدى لأوغوست كونت الذي يعتبر ” البشرية مؤلفة من الأموات أكثر منها من الأحياء”.

 يبدو أننا في اليمن خارج كل هذه الحتميات ووجدنا أنفسنا أمام حتمية خارج العالم وما مر ويمر به وبالتالي لا يمكن أن نستطيع الكلام بصددها عن الحتمية، لا حتمية الارض الممزقة في علم السياسة، ولا حتمية الوراثة والشعور بالنسبة للتقليدين لأننا أمام تفكك مجتمعي نتيجة تراكمات أدت إلى استجلاب الماضي الذي عفى عليه الزمن، وحتمية التقنية الاقتصادية التي أصبحت مغيبة نتيجة نهب مقدرات الشعب فلا رواتب ولا مشاريع ومع ذلك استسلم الشعب لحتمية السيطرة الاقتصادية من قبل المكونات المتناحرة، وحتى حتمية الأيدلوجية والمعتقد أصبحت حتمية فرضت على المجتمع بشدة ولم تفرض نفسها نتيجة حاجة للمجتمع ضمن قناعات قابلة للتعايش، كما تأتي المؤثرات الجغرافية في الطليعة وهي الوحيدة ذات التأثير الواقعي في عالم الصراع على الجيوبوليتيك والمتغيرات الدولية التي لم نستغلها لتكون عامل قوة واستقرار ومحفزا اقتصاديا وسياسيا بل مثلت انتقام الجيوبوليتيك ومحل أطماع القوى الاقليمية والدولية في ظل غياب الدولة المركزية وسيطرة المليشيات المتناحرة المتعددة الولاءات للخارج.

لا تنازع في وجود حقيقة الإيضاحات ولكن الأحداث الراهنة، مع عدم وجود الدولة المستقلة، تشير إلى صعوبة تحقيق سلام عادل وشامل يضمن إعادة الدولة وتفعيل مؤسساتها حتى يسخر الوسط السياسي للهدف الوطني أكثر ما يتأثر بعوامل الانتماءات الضيقة، إن تهيئة الوسط السياسي ينتج العمل التطوعي الجماعي الذي من شأنه أن يعزز العامل الوطني على العامل المذهبي والفئوي المؤدي إلى إعادة الدولة ومؤسساتها ولن يتحقق ذلك مالم تكن هناك إرادة وطنية إلى جانب القرارات الدولية التي تفرض السلام في المنطقة فلم يعد الخيار في اليمن مستقلا لكونه أصبح مقسما بين القوى الدولية والأقليمية وأغلبية القوى المتناحرة تنفذ أجندة  أقليمية ترى من خلالها تقوية مكوناتها وإحكام سيطرتها على الدولة ومؤسستها، واصبحت هذه القوى في سباق محموم لكسب المزيد من المال والسيطرة الذاتية على الارض والانسان.

فهل نستوعب الاخطار ونتجاوز هذه المعضلة؟

*دبلوماسي وسياسي يمني