منكوبون بالحرب والبطالة والتمزيق!

ولدت أمي بنتاً أسمتها "بركة"، على اسم أُمّها، غير أن مزعوم نحسها البالغ، حملهم على نحو عاجل إلى تغيير اسمها إلى "نادية"، نسبة إلى إحدى المذيعات، وذلك للتخفيف من نحس توعد مزعومه أنه سيطولنا جميعاً في معيشتنا وأحوالنا، بل وأيضاً سيؤدي إلى الفراق بين أبي وأمي.

والعجيب أن أبي تم الاستغناء عنه من عمله في شركة "البس" بعد أيام قليلة من ولادتها؛ ليتحول الظن الغالب لدى والديّ إلى ما يشبه اليقين، الأمر الذي أثار في نفسيهما جيشاً من المخاوف حيال مستقبل غامض ومجهول، ومحلاً لقلق ظل يكبر ويتسع.

اعتقد أبي وأمّي أن هذا النحس سيظل يلاحق معيشتنا كلعنة حتّى يُرزقان بمولود جديد آخر يجلب لنا السعد والأمل، ويقطع هذا النحس، ويطيح به، والذي جاء وخيماً على سبب رزقنا من أول اطلالة له، ولكن حتّى ذلك الأمل البعيد المعوّل عليه، يحتاج على الأقل إلى إنتظاره حولاً كاملاً، وربما سنوات، وفي كل حال يظل هذا أمراً بظهر الغيب، قد يقع أو يتأخر أو قد لا يقع.

وظل السؤال يجوس: من أين نجد لقمة عيشنا هذه المدة، أو قليلاً منها، إن لم يسوء الحال أكثر، وتمتد هذه المدة وتتباعد، ويباعدها أكثر أن يكون المولود القادم نحساً أخر، ليصير لدينا نحس مضاعف، وربما نحوس متعددة ومتضاعفة؟!! و"المصائب لا تأتي فُرادى".

إن الاتهام بالنحس لمولودة لا تعي شيئاً مما يحدث حولها ، هو دون شك اتهاماً قاسياً وفاسداً، وأكثر منه الذهاب إلى إدانتها بهذا النحس على أساس من معتقد غيبي لا دليل له، ولا برهان عليه، كما إن الإمعان بالتمسك بما هو وهم وزائف، واعتباره يقيناً لا ريب فيه، هو تكريس لحالة الوهم دون طائل، وأكثر منه استهداف تلك الإدانة لمولودة لا شأن لها فيما نحن بصدده، ولا دخل لها فيما تم اطلاقه من حكم جائر بحقها، وهو ظلم مركب وفادح وأكيد.

 أختي "نادية" بالتأكيد لم تختر أقدارها، أو تاريخ ميلادها، ولا برجها وطالعها، ولم تختر شيئا تستحق عليه لوماً أو عتاباً من أي نوع كان، فضلاً عن توجيه اتهام وإدانة لها، والأكيد أيضاً أنها ضحية، لا علاقة لها بما يتداوله "الكبار" من تنجيم وفلك وطوالع، وليس لها خياراً فيه، ولا بما نظن ونعتقد.

وأكثر من هذا وذاك، أنها وُلدت معلولة بتسلّخ جلدها بشيء أصاب أمها، وباتت تعيش معركتها الوجودية الخاصة بها، حيث تعاني من صراع محتدم بين أسباب بقاءها على قيد الحياة، وموت وشيك يحاول إنتزاعها، وعلى نحو لا يخلوا من عذاب وبشاعة.

ثم لماذا لا نفهم الأمر من زاوية وفرضية مقابلة، إعمالاً لنفس معيار الغيب أو الاعتقاد، ونتعاطى مع الأمر من باب القياس مع الحكم الوارد في الآية: "عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم" وبالتالي نفهم أن الغيب قد درء عنّا ما هو أكبر وأفدح..؟!

لماذا لا نفترض وبنفس المنطق إنها ليست منحوسة كما يُعتقد، بل هي سعيدة علينا، وما حدث هو أنها كانت سبباً لنجاتنا من فقدان أو موت كان بإمكانه أن يطال احدنا أو كلانا، إذا استمرت إقامتنا في تلك البيت التي قبض فيها "مالك الموت" روح الأختين، نور وسامية، وكدتُ أكون ثالثهما..!!

لماذا لا نحمل الأمر على محمل القياس بالمثل: "ذهب الشر"، أو أنكسر، وهو المثل الذي يتم استدعائه حالما ينكسر إبريق الماء أو يقع كأس القهوة، وكأنه يدفع عنّا شرًّا أكبر مما وقع. وقد نجوت من الموت مرتين، فيما النجاة من الثالثة ربما يصير كالمستحيل.

حياة الإنسان أهم بالمقارنة مع ما دونها، مهما كانت فادحة؛ حياة الإنسان مُقدّمة على ما عداها.. لطالما حزَّ في نفسي ذلك الرجل الذي أراد أن يجهز على إبنته لأنها جاءت كما قيل نحساً عليه، وكان قد بلغ به المرض مبلغه، ولم يهدأ إلا بعد إقناعه إنها نحس على نفسها لا عليه.. لطالما ظلت تلك الفتاة تذرف دموعها الحارقة، وهي تتذكر ما حدث لها، ومعاناتها التي واجهتها بسبب ذلك الأمر الذي لم تمحه تقادم السنون.

***

استغنت شركةُ "البِس" التي كان يعمل فيها والدي عن عددٍ من العمّال، وكان أبي من ضمنهم.. مصابٌ جلل، وقدرٌ بات أكبرَ منّا.. أيُّ نكبةٍ أصابتنا يا ألله؟! خوفنا مما هو قادم ومجهول بات يزداد ويتسع!! أبي فقد عمله، ولا بديل يعوضه، ولا من يسدُّ لنا هذا القدَر الّذي بدا أمامنا ثقباً أسود، وفراغاً يريد ابتلاعنا، وتغييبنا في مجاهل من المعاناة التي لا نعرف لها آخر.

لا رجاء يسعفنا، ولا بارقة أمل تلوح في الأفق.. وجُومٌ في السماء، وكلَحٌ في الأرض، ويأس يتمطّى في الشرايين.. لم يعُد هنالك من مصدرِ دخلٍ لنا.. ظروفنا ازدادت سوءًا وانحداراً، ومستقبل لن ننجوا منه عوزاً وفاقة.. لم يكن أمام أبي من خَيارٍ إلّا أنْ يعودَ بنا إلى قريتنا التي تُهرسُ بؤساً وشقاءً ومعاناة تطول، ولا نور في نهاية النفق.. ما أشد سواد الحياة عندما تفقد عملك، وتُقطع أسباب رزقك!

 فادحٌ أصابنا، وفادحٌ مضاعفٌ أصابَ أبي.. مأساةُ أسرةٍ فقد فيها ربّها دخله المحدود، وأسرة أخرى في القرية تعاني من العوز والجوع، لا دخل لها ولا عوض غير ما يرسل به أبي نهاية كل شهر.

أبي يَهيمُ على وجهه، يبحث عن وجهِ الله لعلَّه يجده.. كان الشعور بالضَّياع وفقدانِ الأمل قاسياً بل وساحقاً عليه.. أتخيل الحالَ وكأنَّ صخرةً بحجمِ كويكب عبوس قذفته السماء على رأس أبي، وأصابتنا معه في مكينٍ، حتى بدا الأمر وكأنه أطاحَ بالجميع.

الخَيارات محدودةٌ وصعبة، بل في الحقيقة ليس أمامنا من خَيار.. لا عملَ ولا أيّ فرصةٍ تنجي لقمة عيشنا، وكلَّ ما يمكن أن تفكِّر به من مساعدة غائبٍ ومعدوم.. أنت مبلوع في لُجَّة البحر، بلا يد ولا مجداف ولا حتّى قشة ترجوها أو تمسك بها مسكة غريق.. جميعنا يغرق في التّيهِ والمجهول وأصقاعِ من ضياع.

قبل أن يمر الشهر على فقدان أبي لعمله، عاد بنا إلى القرية.. وبات المُصاب والألم مضاعف.. أسرتان تعانيان الجوع، وكل شيء فيها عزيز، ولا أمل في انتظار ينقذنا من حالنا البائس في عدن، ولم تبق أمام أبي إلّا المُغامرةُ والرحيلُ إلى الغربة؛ يبحث فيها عن فرصة عمل أخرى تسعفنا من حالة البؤس والموت الذي ربما يأتي على نحو بطيء.

حدث هذا قبلَ استقلالِ "جنوبِ اليمن" من الاحتلال البريطاني.. ضاقت الدنيا وحلكت في وجهِ أبي، بعد أن فقدنا مصدر رزقنا.. عُدنا مع أبي إلى القرية التي جئنا منها، بدى حالنا أشبه بأسماك السّلمون التي تعود من مهجرها في رحلتها الأخيرة؛ لتموت في مسقط رأسها، أمّا أبي فعليه أن يواصل الهِيامَ والبحثَ عن فرصة عمل.. عليه أن يشقّ البرَّ والبحر؛ ليجد عملاً نقتات منه، ولا عذر ليتخلّى عن مسؤوليته، حتى وإن كان مصابنا وقدرنا أكبر من الجميع.. فكانت وجهته هذه المرة إلى "بربرة" في الصومال الشقيق.

***

أما اليوم فبماذا أحدثك يا أبي، وأي محيط يتسع له وجع الحديث؟!! اليومَ يا أبي أسوأ من أمسه إلى حد نستصعب فيه اي مقارنة أو مقاربة.. ما من لغة قادرة على وصف ما نعيشه اليوم لروعه وبشاعته.. تتسابق المصائب من كل اتجاه على رؤوسنا دون مهل أو فُسح.. تزاحمت فوق رؤوسنا مصائب لا تقدر عليها الجبال الراسيات.. ما حدث لنا ولليمن تجعل مأساتنا في الأمس، وكل مآسي ذلك العهد تبدو بحجم رأس دبوس في محيط بلا حدود.. محيط من العذاب والموت والبشاعة.

نحن في زمن تعاظمت فيه مصائبه وبشاعته، وما كان في الأمس مصابٌ مقدورٌ عليه بممكن أو حتّى بمعركة مع المستحيل، بات اليومَ كوارثُ تفوقُ ما تحتمله الجبالُ الراسيات حتى وإن كانت من حديد، لقد جمع لنا العالمُ كل قبحه ودمامته، وصبَّ فوق رؤوسنا، كلَّ فساده ورعبه وبشاعته.

الفارقُ بين مصائبِ الأمسِ وازدحامِ كوارث اليوم تفوق كل ممكن ومعقول.. عشنا سبع سنوات حرباً ضروساً، وجحيم ليس له متسع، رافقته مصائب ودواهي، ومآرب وأطماع، وتقسيم وتمزيق اليمن، وتشظّي وتفتيت المجتمع.

حروب متعددة تشُبُّ وتنشب هنا وهناك بألف رأسٍ وأميرِ حرب، ومعهم ومن خلفهم راعاتها ومموليها، وكل يقضم منها ما استطاع؛ وصار السؤال الأهم يا أبي: أين هي اليمن؟! ويأتي الجواب صادم من واقع الحال: كانت هنا يمن..!!
 
سنواتٌ عجاف أكل فيها شعبُنا دواخلَه، وأكل المجتمعُ الواحدُ بعضَه بعضا، وأكلت النار معظمه.. حروبٌ دميمة وبشعة، سحقت شعبنا طولاً وعرضاً.. مـأساةٌ بعمقٍ سحيق، وأبعادٍ تبدّت لنا كمحيط دون أطراف ولا خِلجان ولا منتهى، ولك أن تتخيَّلَ حجم الكارثة، وأنت ترى كل شيء ينهار إلى ساسه.. قتل ودمار وخراب ونهب وفساد غير مسبوق.. كل شيء بات مريعا ومهولا ومشبعا بالبشاعة.

أكثر من مليون ونصف موظفٍ ومتقاعدٍ، ومستفيدٍ، قُطعت رواتبهم، وقُطعت معها أسبابٌ الرزق الشريف، وأطراف الحرب والصراع تتكايد مع بعضها لتتخلى عن المسؤولية حيال هذا العدد الذي يعول قرابة عشرة ملايين مواطن، باتوا مُفقرين ومعدمِين ومُعوزين.

تم هدم الدولة ومؤسساتها وإدارتها وما له علاقة وصلة بها، أو بالأحرى ما بقي منها ساس ورأس.. أنهار التعليم إلى آخره، وأنهارت الخدمات بكل مسمياتها إلى قيعانها السحيقة، واسترخصت حياة الإنسان، وبات الموت لدينا وفيرا، بل باذخا ومجانا أيضا.

تدهورت العملة على نحو مريع حتى بات الخزي ملحقاً بها، وبات أربابها لا يخجلوا ولا يستحوا ولايندى لهم جبين.. تضاعفت البطالة حتى بلغت أوجها، وصيرت شعباً عاطلا عن العمل وصارت سلطات الأمر الواقع هي الباطل كله..

تُمارس أطراف الحرب سياسة إفقار متعمدة حيال هذا الشعب المنكوب بها، وبرعاتها الذين جاءوا باسم المنقذين، فصبّوا علينا قبح العالم وبشاعته التي فاقت كل تصور وخيال.. أتنتشرت الأمراض والأوبئة، والمجاعة والتشرّد، والضياع، رباه كم فتِكت تلك الحربُ المرعبة بهذا الشعب المنهك والمسحوق، وما زالت هدنها أكثر فتكاً منها.. محيطنا عالمٌ ينبجس بالثراء والبطر، ومتوحِّش بكل ما هو بشع ومرعب، ولا يبالي بما جلبه لنا من حرب وموت، وما صلنا إليه من حال ومحال، وإلى اليوم.

أكثرُ من مليونِ مواطنٍ مُفقر يقتل بعضه بعضاً في الخنادق والجبهات، بل وحماية حدود المعتدي.. سلطات مُغتصِبة وأرض تُغتصب بقهر وغلبة.. قيمٌ إنسانية مُهدرة، وحقوق شعب تستباح.. نهبٌ وانهيار.. أمراءُ حرب وجهلة، وعملاءُ يتسلطون.. عدوانٌ كبير واحتلالُ غاشم، وهمجيٌ غيرُ مسبوق.. ما حدث كان أكبر من أن يُوصَف، ولم يكن يخطر على بالٍ، وما كان بحسبان.

*قاضي وعضو البرلمان اليمني